من أجل تصحيح المسار بقلم الشيخ الدكتور أبو غالب الحميري

من أجل تصحيح المسار بقلم الشيخ الدكتور أبو غالب الحميري



مــن أجـل تصحيــح الـمســار …

مما استفدته واستقر لدي خلال فترة الصراع الفكري المحتدم: أن الكلام في المسائل الشرعية والقضايا العلمية والتأريخية الشائكة تحت ضغط الواقع وانفعالات الردود ونوازع الصراع، لا ينتج عنه تحرير علمي دقيق، ولا منهج عدل سديد، ولا تجرد كامل للحق وحده، وإنما الغالب على الكتابات التي تصدر في مثل هذه الأجواء الملتهبة سواء كانت سياسية، أو تأريخية، أو حتى شرعية، تأثرها بواقع الصراع الملتهب حولها، مع غلبة الهوى وظهور حظ النفس، واستحضار عداوة المخالف، ومراعاة الميول العام للجماهير، وغيرها من نوازع النفس البشرية التي يقع فيها الكثير منا دون شعور - إلا من رحم الله وقليل ما هم - ناهيك عن خوض من لا يحسن الكلام، وتكلم من لا يعلم حدود ما أنزل الله في شرعه من الأحكام!!

ولهذا السبب وقع الخلط في المفاهيم والمصطلحات المحررة فضلًا عما لم يحرر منها؛ وربما حمل البعضَ شططُهم - أحيانًا - على التجاوز وإنكار ما هو معلوم مستقر في الشرع واللغة والعقل والعرف!

وإن النزوع إلى الحديث الجاف عن مسائل الخلاف الشرعية، في معزل عما قرره علماء الأمة بعلم وعدل، عبر عصور وقرون سابقة من الزمن، والاستنارة بهديهم وفقههم، لهو مدعاة للزلل والحيف وعدم الإصابة والسداد في كثير مما يطرح ويناقش في مواقع التواصل وغيرها.

ففي موضوع الولاية .. اتفقنا أن دعوى الولاية - سوى ولاية المحبة والأخوة في الدين - كاذبة، وأن الحكم شورى في الإسلام، فلا ولاية، ولا وصية لأحد إلا من ولته الأمة وبايعته عن طواعية منها.

واتفقنا أن الحوثي وكل الطامعين في الحكم باستحقاق النسب الهاشمي وحده، هم أدعياء كذابون، وأن الحوثي لا حق له فيما يدعيه من الولاية على رقاب اليمنيين، لا شرعًا ولا عقلًا ولا دستورًا.

وفهمنا كذلك من نصوص (الخلافة في قريش) أنها ليست نصوصًا تعبدية محضة لا يمكن فهمها؛ وإنما هي نصوص معللة بأمر واقع في زمانها، وهو العصبية والشوكة التي كانت في قريش آنذاك، ولا وجود اليوم لهذه العلة التي عليها مدار الحكم لسريان هذه النصوص على واقعنا.

وأن الخلاف الواقع في تلك النصوص قديمًا وحديثا بين أهل العلم ليس في صحة ثبوتها، وإنما في فهم معناها، وسياق واقعها الزمني؛ كما قال الصديق رضي اللهُ عنه: "إن العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش".

وأن دعوى الإجماع في هذه المسألة غير مسلم بها لوجود الخلاف المشهور، وليس هذا الموضع محل تحرير المسألة.

لكن يبقى مصطلح ( الآل )، الذي كثر فيه الخوض والقيل والقال؛ سواء قلنا: (آل محمد)، أو (آل الرسول)، أو ( آل البيت)، أو (أهل البيت)، فهذ المصطلح لا ينبغي أن يخضع لحسابات الأهواء والمزاج السياسي الحاد، لأنه مصطلح شرعي نذكره في أجل عبادتنا وهي الصلاة، ولا غبار عليه من حيث معناه اللغوي والشرعي وإن اختلفت فيه ألفاظ النصوص. فلهذا المصطلح مدلوله الخاص والعام، والنقاش المحتدم حوله يجب الرجوع فيه إلى ما حرره وقرره أئمة وعلماء الإسلام سلفًا وخلفا وليس للجهل والهوى.

فمن حيث التحرير اللغوي: فالآل والأهل شيء واحد، أبدلت الهاء ألفًا، ولا مشكلة في ذلك؛ يقال: آل الرجل: أي أهله وعياله، كما يقال: آلُ الرجل: أتباعه وأشياعه وأهل ملته.

وبين اللفظين عموم وخصوص من وجه، فلفظ الآل أعم لدلالته على قرابة النسب والمصاهرة والأتباع، ولفظ الأهل أخص بالزوجة أو الزوجات، وإن كان يطلق أيضًا على القرابة والعصبة من العشيرة.

قال الراغب الأصفهاني: (أهل الرجل من يجمعه وإياهم نسب أو دين أو ما يجري مجراهما من صناعة وبيت وبلد).

وجاء في القاموس للفيروز أبادي: (آله أهل الرحم وأتباعه وأولياؤه: ولا يستعمل إلا فيما فيه شرف غالبا، فلا يقال: آل الإسكاف، كما يقال أهله. وقال فى القاموس أيضًا: وأصله أهل، وأبدلت الهاء همزة فصارت أأل، فتوالت همزتان فأبدلت الثانية ألفا، وتصغيره أويل وأهيل).

وقال الزبيدي: (ومن المجاز: الأهل للرجل زوجته، ويدخل فيه الأولاد).

وقد ورد استعمال اللفظين في الكتاب والسنة، والتعبير عن أحدهما بالآخر في كتب أهل العلم مسألة اصطلاحية لا مشاحة فيها، ولهذا قال الراغب أيضًا: (وصار أهل البيت متعارفا في آل النبي عليه الصلاة السلام).

فآله ﷺ بالمعنى العام هم أمته وأتباعه وأشياعه على ملته إلى يوم القيامة، ومن ينكر اليوم (صيغة الصلاة الإبراهيمية في التشهد) كما صرح به بعض أهل عبادة الهوى والمزاج؛ بحجة محاربة الحوثي والسلالة!!

فإنما ينكر نصًا شرعيًا معلومًا من السنة بالضرورة، وينفي أن يشركه في التصلية عليه الصالحون من أمته؛ ويحتاج أيضًا ألا يقول في تشهده: (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين)؛ لدخول آله فيهم! وإذا كان هذا في العموم من أمته، فإن دخول أصحابه وخاصة أهل بيته وقرابته المؤمنين به على وجه الخصوص من باب أولى، لا ينازع في هذا إلا أصحاب الجهل والهوى.

وأما آله ﷺ بالمعنى الخاص فهم جميع أهله الأقربون إليه، من أزواجه وقرابته، ومن تفرع عنهم من أهل الإيمان والاتّباع إلى يوم القيامة؛ وهذا أيضًا محل اتفاق بين أهل الإسلام.

ومن ينكر مولاة أهل بيت رسول الله ﷺ، من زوجاته أمهات المؤمنين، أو قرابته الصالحين الذين عُلِمَ فضلهم في الإسلام كعليّ وفاطمة والحسنين وأولادهما، وحمزة، والعباس وجعفر والحارث وعقيل وأولادهم، فإنه ينكر حقيقة معلومة بيقين، قطع بها جل أئمة أهل العلم بالضرورة. وإن عدم مولاة هؤلاء في الإيمان ومحبتهم، نفاق ظاهر لا شك فيه!

ولا فرق بين من ينكر هذه المحبة والولاء بمحض الهوى والتعصب، وبين من ينكر نصوص السنة وحجيتها بالجملة.

ومن أصول معتقد أهل السنة والجماعة: مولاة الصحابة والقرابة ومحبتهم والترضي عنهم، والإقرار بفضلهم وسابقتهم في الإسلام، وصحبتهم للرسول ﷺ، وجهادهم معه …

وافتعال المعارك الثأرية للتفريق بين الصحابة والقرابة، إنما هو منهج رافضي خبيث، وناصبي مقيت، لا يجوز أن ننجر إليه.

والحق أن كل من انتسبوا إلى آل بيت النبي ﷺ صدقًا أو ادعاءً، ثم خالفوا هديه وطريقته بفعلهم، أن يُتبرأ منهم، كما تبرأ منهم النبيُّ ﷺ، بقوله: «إنَّ أهلَ بيتي هؤلاء يرَوْن أنَّهم أولَى النَّاسِ بي وليس كذلك، إنَّ أوليائي منكم المُتَّقون من كانوا وحيث كانوا؛ اللَّهمَّ إنِّي لا أُحلُّ لهم فسادَ ما أصلحتُ؛ …».

[رواه ابن حبان والطبراني. ينظر: صحيح دلائل النبوة للوادعي (491) ].

وقوله ﷺ: «إن آل فلان … ليسوا بأوليائي، إنما وليي اللهُ وصالح المؤمنين».

[رواه البخاري وغيره].

وقوله ﷺ: لفاطمة وصفية والعباس وغيرهم من قرابته: «لا يأتيني الناسُ بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم يوم القيامة فإني لا أغني عنكم من الله شيئا».

[رواه مسلم وغيره].

وقوله ﷺ: «من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه».

وغيرها من الأحاديث الصحيحة الصريحة التي تقضي بإسقاط اعتبار كل مدع للنسب للآل، وهو على خلاف هديهم ومنهجهم، لا أن نسقط آل البيت كلهم من أجل شذوذ من شذ ممن انتسب إليهم!

فإن هذا من الظلم والبغي الذي حرمه الله، وهو من خصال أهل الجاهلية لا أهل الإسلام.

ويجب أن تكون معركتنا اليوم في اليمن لا مع النصوص الصحيحة، وإنما مع الحوثي أو مع غير الحوثي ممن يستغل تلك النصوص ويحرّفها ويسيء فهمها ويوظفها توظيفًا سياسيا تأباه حقيقة النصوص وقواعد الشريعة السمحة.

وإن أسوء ما تركه منهج التعميم في هذه المسألة أو غيرها من مسائل النزاع، وعدم التزام البعض منهج الوسطية والاعتدال: تجرئة أهل السفه ممن لا علم عندهم ولا دين، على الخوض والولوغ في أعراض من عُلِمَ فضلُهم وسابقتهم في الإسلام!!

بل انسحب التطاول عند بعض أولئك الحمقى على جميع بني هاشم كلهم! متجاهلين ومتجاوزين بذلك مقام النبوة، ومقدار رسول الله ﷺ، ومكانته الرفيعة ونسبه الطاهر الشريف فيهم! بما يفضي إلى الردة عن الدين برمته.

وتمادى آخرون في الجهل ليلحقوا في الذم كل قرشي؛ ليسقطوا بذلك خبثًا منزلة الأصحاب الكرامة عامة؛ بنبرة حاقدة لا تدل إلا على نفاق مبطن وعداوة للدين وصفوة أهله!!

وهؤلاء الرعاع لا علاقة لهم بحرب الحوثي، ولا برد فكره وإفكه وظلمه، وإنما قلوبهم مغموصة بمرض الجهل والنفاق وعداوة الدين وحملته أيًّا كانوا!!

ولا أظن من أوغل من بعض إخواننا الدعاة في هذه القضية إلى حد الغلو، دون تفصيل ولا تحوط ولا ضوابط؛ إلا مشاركًا لأولئك الحمقى في تجاوزهم الفج واستطالتهم في حق الإمام علي رضي اللهُ عنه، وأهل بيته!

وكيف سيسلم للمرء دينه إذا تلوث بغبار الشعوبية الجاهلية المقيتة؟! بل أنى يصفو لك مقام الورع والتقوى إذا كان على حافة الوقيعة في أهل الفضل والصلاح ممن ينتسبون لآل بيت رسول الله ﷺ، من أئمة وعلماء أهل السنة والجماعة عبر التأريخ، إذا كنت تجمع ولا تقمش، وتعم ولا تخص بحجة محاربة السلالية؟!!

وإن من الأمانة والواجب على كل من تصدر لتفنيد فكر الحوثي الضال ورد بغيه وظلمه، لزوم طريق أهل العلم والعدل، وإعادة توجيه بوصلة الولاء والبراء إلى ضوابطه الشرعية، حتى لا ينحرف مسار القافلة عن الجادة، ويتسع الخرق الذي لا يمكن ترقيعه بعد ذلك؛ فهناك موجة غلو غير مسبوقة لا يشببها إلا غلو الحوثي ولهاثه وراء كذبة الولاية المزعومة!!

يقضى على المرء في أيام محنته

حتى يرى حسنًا ما ليس بالحسن!!

وإن من منهج الله السوي الراشد: أن الغلو لا يحارب بالغلو، والجهل لا يقابل بالجهل؛ فإن الله لا يمحو الخبيث بالخبيث؛ ولكن يمحو الخبيث بالطيب، والباطل بالحق، والظلم بالعدل، ومن أراد إحقاق الحق وإبطال الباطل فليسلك منهج العلم والقسط. (وإذا قلتم فاعدلوا)، (ولا يجرمنكم شنآن قومٍ على ألّا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى).

والقسط القسط تبلغوا.

والله أسأله التوفيق والسداد، والعصمة من الزلل والشطط والعناد، والله من وراء القصد وهو حسبي ونعم الوكيل.

✍🏻#أبو_غالب_الحميري

x