تأملات مدهشة ولفتات عجيبة من قصص سورة الكهف يكتبها الاستاذ محمد مصطفى العمراني

تأملات مدهشة ولفتات عجيبة من قصص سورة الكهف يكتبها الاستاذ محمد مصطفى العمراني



تأملات مدهشة ولفتات عجيبة من قصص سورة الكهف ( 1)

محمد مصطفى العمراني

تعتبر سورة الكهف من سور القرآن الكريم العظيمة التي ورد في فضل قراءتها يوم الجمعة عدة أحاديث صحيحة منها: ما رواه البخاري في صحيحه: باب فضل سورة الكهف، ثم ذكر بسنده عن البراء بن عازب قال: ( كان رجل يقرأ سورة الكهف وإلى جانبه حصان مربوط بشطنين فتغشته سحابة فجعلت تدنو وتدنو وجعل فرسه ينفر ، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له ، فقال: تلك السكينة تنزلت بالقرآن). متفق عليه.

وفي صحيح مسلم مرفوعاً: (من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال).

وروى الحاكم في المستدرك مرفوعا (إن من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين). وصححه الألباني.

وهي سورة تقرأها في الشهر أربع مرات وفي العام 48 مرة هذا بخلاف قراءتها في غير يوم الجمعة فإن أهميتها تتجاوز القراءة التعبدية أي أجر القراءة ، والعصمة من فتنة الدجال ، وغفران الذنوب ما بين الجمعتين ، والنور الذي يضاء لقارئ سورة الكهف ما بين الجمعتين إلى أن هذه السورة ترسم منهج المسلم في الحياة ، وتوضح موقف الإسلام من أربع أسس تحرك الحياة وهي : أولا : الدين ، وثانيا " المال ، وثالثا : العلم ، ورابعا : الملك .

فقصة " أصحاب الكهف " توضح أهمية الدين في الحياة ، ولأهمية الدين جعل الله قصة " أصحاب الكهف " أول القصص الأربع ، ولم يحدد زمان القصة ومكانها إذ الأهم في القصص القرآني هو العبرة والدروس المستفادة من القصة.

وجعل الله قصة " أصحاب الجنتين " الثانية وهي توضح أهمية المال في الحياة ، وكيفية التعامل معه ، كما جعل قصة العلم هي الثالثة ، ولكن ما يميز قصة العلم عن غيرها من القصص أن الله سبحانه وتعالى جعل أبطال هذه القصة الهامة من الأنبياء ، فالأول نبي ورسول من أولي العزم من الرسل وهو : موسى عليه السلام " كليم الله " ، والثاني : الخضر عليه السلام ( بكسر الخاء ) وهو نبي من الأنبياء ، وسمي الخضر لأن الأرض كانت تخضر في موضع جلوسه ، والثالث : يوشع بن نون عليه السلام وهو من أنبياء بني إسرائيل.

وقد جعل الله قصة العلم تدور أحداثها بين هؤلاء الأنبياء لشرف العلم ، فتأمل.

وكان ذو القرنين الملك العادل هو بطل القصة الرابعة في سورة الكهف ؛ والتي توضح أثر الملك والسلطان والدولة عموما في الحياة ، وما ينبغي أن يكون عليه الملك والسلطان من العدل وإنهاء المظالم ونصرة المظلوم حيثما كان ، وخدمة الناس.

إن في هذه القصص الأربع التي وردت في سورة الكهف دعوة لتدبر آيات هذه السورة ، وللتأمل في القصص التي وردت فيها ، والتدبر في أحداثها والعبر والدروس التي وردت فيها ، والمضي على المنهج الإسلامي التي وضحت معالمه فيها .

📚 - دروس من قصة " أصحاب الكهف" :

ففي الآية التي تعقب قصة أصحاب الكهف قال تعالى : ( وقل: عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدا) . فمثلما دعا أصحاب الكهف ربهم حين وصولهم الكهف : (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا ) ، فقد أمر الله نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن يرجوه إلى ما هو أقرب إلى الرشد من بيان أمثال هذه القصة ، وذلك بعد أن أبر الله وعده الذي وعده للمشركين بأن يبين لهم قصة " أصحاب الكهف " فأنزل الوحي بقصتهم في هذه السورة على هذا التفصيل.

يقول العلامة الطاهر بن عاشور في تفسير هذه الآية في التحرير والتنوير: " فـ " عسى " مستعملة في الرجاء تأدبا ، واسم الإشارة عائد إلى المذكور من قصة أهل الكهف بقرينة وقوع هذا الكلام معترضا في أثنائها ، ويجوز أن يكون المعنى : وارج من الله أن يهديك فيذكرك أن لا تعد وعدا ببيان شيء دون إذن الله ". انتهى حديث العلامة ابن عاشور - رحمة الله تغشاه.

(نحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى) الآية 13 . فهم فتية شباب لديهم الإيمان والحماسة ، والفتوة هنا لا يشترط بها السن بل القدرة على النشاط والحركة والقابلية للتأهيل التربوي والدعوي والتعاون مع بقية الإخوة.

( آمنوا بربهم وزدناهم هدى ) ، أي بذلوا أسباب الإيمان وسبل الهداية فزادهم الله هدى من عنده ، قال تعالى : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ )

إذ لابد للمسلمين عامة وللدعاة إلى الله على وجه خاص من بذل أسباب الإيمان بالله على أسس راسخة وعقيدة صلبة قبل أن يواجهوا العالم بدينهم.

(وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا) الآية 14.

(إذ قاموا ) فربط الله على قلوبهم حين قاموا وعزموا على الدعوة إلى الله ليعطيهم دفعة قوية من الشجاعة والإيمان ؛ إذ أن مواجهة المجتمع واتخاذ موقف من الضلال والشرك وإعلان الحق وتسفيه الباطل يحتاج إلى قوة كبيرة ومعنويات عالية وعزائم كبيرة ، ولابد للدعاة إلى الله من حسن التوكل على الله والاعصام بحبله ، حتى يربط على قلوبهم ويوفقهم ويسدد قولهم ، ويرشد مسارهم فلا تكفي فتوة الشباب ، وقوة التنظيم ، واتخاذ المواقف الصحيحة إذا لم يربط الله على القلوب ويثبت الأقدام ويرشد المسار .

( إذ قاموا فقالوا ) أي قاموا بالتحرك أمام الملك ، وأمام المجتمع في الساحات وأظهروا دعوتهم بالقول ( إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا) .

وقد أختلف الكثير من المفسرين هل جهروا بدعوتهم وتحركوا في أوساط الناس أم إنهم عزموا على ذلك فقط ثم ضرب الله على آذانهم فناموا تلك النومة الطويلة ؟

والذي أميل إليه هنا أن لفظ " قاموا " تعني أنهم قد تحركوا فعلا وواجهوا المجتمع وسفهوا عبادته لغير الله ووضحوا عقيدتهم التوحيدية.

وهذا لعدة أسباب:

أولا : لأن معنى " قم " في سورة المدثر يعني التحرك العملي ودعوة الناس إلى الله ، وأما معناه في سورة المزمل فيعني القيام لصلاة بالليل " قيام الليل " وكلاهما فيه تحرك أحدهما دعوي والآخر تعبدي.

فقد شرع الله لرسوله قومتان " قومة للعبادة " قال تعالى ( يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا ) و" قومة للدعوة " ( يا أيها المدثر قم فأنذر ) .

ثانيا : أن اعتزالهم في الكهف يؤكد أنهم واجهوا مجتمعهم ونابذوا قومهم ولذا لجأوا إلى الكهف مخافة إعادتهم إلى الشرك.

ثالثا : مبالغتهم في الحيطة والحذر يؤكد أنهم قد واجهوا قومهم وسهفوا شركياتهم وأعلنوا عقيدتهم ثم لجأوا إلى الكهف بعد ذلك تحسبا لما قد يحدث كردة فعل من قومهم.

✒️ - كيف تحول الكهف إلى فضاء رحب بالإيمان ؟!

وحين واجهوا قومهم بعقيدة التوحيد ثم اعتزلوهم كان لابد لهم من محضن تربوي خاص بهم ( فآووا إلى الكهف) .

وفي الإيواء إلى الكهف معنى يؤكد أن طريق الدعوة إلى الله في مثل هذه المجتمعات فيها صعوبة وخشونة في العيش ، فماذا عسى في الكهف من وسائل الراحة ؟ أو من الخدمات التي تحقق الرفاهية ؟!

إنه كهف موحش في جبل لكن الله جعل فيه الرحمة والهداية والمعجزة العظيمة حين آوى تلك الثلة من المؤمنين الموحدين فتأمل.

( وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِه ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا) الآية 16

فلما علم الله صدق توجههم وإخلاصهم في دعوتهم وتضرعهم بالدعاء إليه حقق لهم مقاصدهم فنشر لهم من رحمته فجعل بينهم التراحم والتآخي والانسجام ، يقول سيد قطب في ظلال القرآن : ( وهنا ينكشف العجب في شأن القلوب المؤمنة. فهؤلاء الفتية الذين يعتزلون قومهم، ويهجرون ديارهم، ويفارقون أهلهم. ويتجردون من زينة الأرض ومتاع الحياة. هؤلاء الذين يأوون إلى الكهف الضيق الخشن المظلم. هؤلاء يستروحون رحمة الله. ويحسون هذه الرحمة ظليلة فسيحة ممتدة. ينشر لكم ربكم من رحمته ولفظة ينشر تلقي ظلال السعة والبحبوحة والانفساح.

فإذا الكهف فضاء فسيح رحيب وسيع تنتشر فيه الرحمة وتتسع خيوطها وتمتد ظلالها، وتشملهم بالرفق واللين والرخاء.. إن الحدود الضيقة لتنزاح، وإن الجدران الصلدة لترق، وإن الوحشة الموغلة لتشف، فإذا الرحمة والرفق والراحة والارتفاق. إنه الإيمان).انتهى كلام سيد قطب.

( وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا) . الآية 17

ففي معنى الآية " وترى الشمس ـ يا محمد يا رسول الله ـ إذا طلعت كيف تميل عن كفهم ذات اليمين وكيف تقرضهم ذات الشمال لكيلا تصيبهم في طلوعها أو غروبها فذلك من آيات الله ، فالله سبحانه وتعالى قد جعل للكون سننا ولكنه إذا أراد أن يجعل آية أو معجزة خرق تلك السنن معجزة وآية فقد جعل في البحر طريقا يبسا معجزة لموسى عليه السلام وقومه ومنجاة لهم وإهلاكا لفرعون وجنده ، وجعل النار بردا وسلاما على إبراهيم عليه السلام ، ففي سنن الله أن الماء يغرق والنار تحرق ولكن الله يخرق السنن معجزة وآية .

لقد شملهم الله بعنايته ولطفه فكانت القدرة الإلهية إضافة إلى حجب الشمس عنهم ، تقلبهم ذات اليمين وذات الشمال كي لا يصابوا بالعفن وتتقرح أجسادهم وتتسلخ ، إضافة إلى أن جسم الإنسان إذا ظل لفترة طويلة نائما على جهة واحدة فإنه هذا الوضع يسبب الضغط على هذه الجهة ، وإذا ضغط على جهة معينة ضاقت الشرايين فيَضْعُف وصول الدم، ومن ثَم ينتقل هذا الإحساسُ بالضغط إلى المخ والإنسان نائم، والمخ يصدر أمرًا بالحركة فيؤدي هذا إلى منع تدفق الدم للجسم ومن ثم الإصابة بالشلل .

◾- العبرة والعظة من قصة أصحاب الكهف :

..ثم بعثهم الله ليكونوا آية للناس وليتساءلوا بينهم وحين تساءلوا لم يخوضوا في جدال كبير بل ردوا الأمر إلى علم الله ، ( قالوا ربكم أعلم بما لبثتم ) فحين تساءلوا كم لبثوا ( قال قائل منهم ) أي شخص واحد ، ولكن حين أجابوا أجابوا جميعا عن هذا السؤال ( قالوا ربكم أعلم بما لبثتم ) أي الكل ردوا الأمر إلى علم الله فحسموا الأمر .!

وعلى الدعاة إلى الله أن لا يختلفوا في الأمور التي لا طائل منها ، وليوفروا جهدهم وطاقتهم إلى الأمور العملية الواضحة.

وأنظر إلى مدى حذرهم وحرصهم حيث اصطحبوا الكلب معهم حتى إذا رآهم الناس قالوا : هؤلاء ذاهبون للصيد ، وحرصهم على أن يأتيهم من بعثوا به ليأتي بالطعام " برزق منه " أي بما يسد رمقهم ويسكت جوعهم ، إذ لو جاء بالشيء الكثير لربما لفت الأنظار إليهم .

وقد نبهوه رغم أنه منهم ويدرك واقعهم على أن يتلطف ، ( وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا ) ، والتلطف هنا يتجاوز القول ولين الكلام وامتثال القوانين العامة ، وإنما أيضا يشمل الهيئة والزي ، فلا يتخذ هيئة غريبة عن عموم الناس وملابس ملفتة للنظر ، كذلك لم يقولوا ولا يخبرن بكم أحدا ، بل ولا يشعرن بكم أحدا ، أي لا يشعر بوجودكم وبمكانكم أحد أيا كان ، وهذا مبالغة في الحذر والحماية حماية للمشروع الذي يحملونه وخوفا من أن يتكالب عليهم القوم ويعيدوهم إلى ملتهم وإلى الشرك ( إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا ) الآية 20

وحين ينزل الله سبحانه وتعالى هذه السورة العظيمة على رسوله صلى الله عليه وسلم يخبره أن الدعاة الأوائل إلى الحق قد عانوا وتحملوا المشاق في سبيل توحيد الله والحياة في ظلال العقيدة الصحيحة وإحقاق الحق وإبطال الباطل ، اعتزلوا قومهم وذهبوا إلى الكهوف في الجبال فرار بدينهم ، لقد جاءت هذه القصة وغيرها من القصص التي وردت في هذه السورة بعد أن قال الله تعالى لنبيه : ( فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ) ، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات فما أنت إلا رسول عليه البلاغ وحمل راية الدين والتوحيد كما حملها من قبلك رسل وأقوام ، لتختتم السورة الكريمة بالآية (قُلْ إِنَّمَآ أَنَا۠ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰٓ إِلَىَّ أَنَّمَآ إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِۦ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَٰلِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِۦٓ أَحَدًۢا ) .الآية 110

فكانت هذه القصة بمعانيها العظيمة ودلالاتها الهامة كشلال بارد من الطمأنينة الإلهية تنداح على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما حملت في قصصها الكثير من التوجيهات والدروس الهامة التي توضح المنهج الإسلامي لنسير على أنواره ، ونسترشد به في التعامل مع أهم أسس ومحركات الحياة وهي الدين والمال والعلم والسلطة.

فتأمل .

x