هل سمعتم برجل ألف كتابا في خمسين عاما ؟!
ذلك هو العلامة محمد بن الطاهر بن عاشور ، أما الكتاب فهو " التحرير والتنوير" وهو من أعظم كتب تفسير القرآن على الإطلاق ، موسوعة معارف علمية ثرية في ثلاثين مجلدا .
هذا الكتاب العظيم حجز للعلامة الطاهر بن عاشور ـ رحمة الله تغشاه ـ مكانة عالية ومنزلة رفيعة بين علماء التفسير أمثال ابن جرير الطبري وابن كثير ، ومن العلماء المتأخرين العلامة الشنقيطي صاحب " أضواء البيان في إيضاح أي القرآن " .
والعلامة ابن عاشور من أشهر علماء تونس والعالم الإسلامي في القرن العشرين ، ولد في 1879م لأسرة علمية تنحدر من أصول أندلسية ، وهو بحر في اللغة والفقه والقضاء وله مواقف مشهودة في مواجهة سلطة بورقيبة ، ولن ينسى الناس موقفه حين حاول بورقيبة إلغاء فريضة صيام رمضان بدعوى أنه يعطل الإنتاج وطلب منه إصدار فتوى بذلك فذهب إلى الإذاعة وقال : قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا كُتِب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) ، ثمّ قال بعدها: " صدق الله ، وكذب بورقيبة ".
وهو أول من خطب ودرس باللغة العربية في تونس في القرن العشرين فقد كان التدريس كله باللغة الفرنسية ، وهو صاحب أقصر خُطبة جمعة في تاريخ الإسلام ، حيثُ صعد على منبر جامع الزيتونة في إحدى خطب الجمعة في الخطبة الأولى نظر إلى المصلين وقال: ( نساء من اللواتي في الأسواق الآن ؟) ، فلم يتكلم المصلون ، ثم قالها مرة ثانية : ( نساء من اللواتي في الأسواق الآن ؟)
فلم يتكلم المصلون، فجلس الشيخ ثم قام وقال: لا خير في صلاتكم ونساؤكم عرايا ثم قال أقم الصلاة يا إمام.
* - ثناء العلماء عنه :
قال عنه صديقه الشيخ محمد الخضر حسين شيخ الجامع الأزهر رحمه الله : " وللأستاذ فصاحةُ منطقٍ ، وبراعةُ بيانٍ ، ويضيف إلى غزارة العلم وقوّة النظر : صفاءَ الذوق ، وسعة الاطلاع في آداب اللغة ... كنت أرى فيه لساناً لهجته الصدق ، ... وهمَّةً طمَّاحة إلى المعالي ، وجِداً في العمل لا يَمَسه كلل ، ومحافظة على واجبات الدين وآدابه... وبالإجمال ليس إعجابي بوضاءة أخلاقه وسماحة آدابه بأقل من إعجابي بعبقريته في العلم" .
ووصفه العلاّمة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله قائلاً : ( عَلَم من الأعلام الذين يعدّهم التاريخ الحاضر من ذخائره ، فهو إمام متبحِّر في العلوم الإسلامية ، مستقلّ في الاستدلال ، واسع الثراء من كنوزها ، فسيح الذرع بتحمّلها ، نافذ البصيرة في معقولها ، وافر الاطلاع على المنقول منها ، أقْرَأ ، وأفاد ، وتخرَّجت عليه طبقات ممتازة في التحقيق العلمي) .
كان أول كتبه كتاب " أليس الصبح بقريب ؟ " والذي ركز فيه على إصلاح التعليم ، حيث وضع مقترحات وخطط عملية لإصلاح التعليم ، وتحدث فيه عن وضع التعليم في مطلع القرن العشرين ، وقد قام بنفسه بتحقيق الكثير من تلك المقترحات والأفكار حين تولى مشيخة الزيتونة ، كما كانت له جهود كبيرة في القضاء ، كما كانت له أراء سديدة في مختلف القضايا .
وله الكثير من الكتب الهامة والتي تصل لأربعين كتاب منها كتاب " مقاصد الشريعة الإسلامية " وغيرها من الكتب النافعة الدقيقة والتي بلغ فيها غاية الدقة والإتقان والروعة في الأسلوب ، لكن يظل كتابه الأشهر " التحرير والتنوير " موسوعة معارف علمية ، والشيخ الطاهر بن عاشور أديبا متميزا وله شروح لديوان بشار بن برد ولمعلقة أمرؤ القيس ونقد رائع لشعر المتنبي ولذا تجد في تفسيره حضورا كبيرا للجانب اللغوي .
* - عن موسوعة التحرير التنوير
يقول الشيخ محمد صالح المنجد عن تفسير " التحرير والتنوير " : (وهو تفسير قيم ، أمضى في تفسيره قرابة الأربعين عاماً ، وقد اشتمل على كثير من الفوائد واللطائف والتحريرات ، مع الحرص على تلمس الحِكم من الأحكام والتشريعات , والإكثار من النقول عن الأئمة والعلماء في شتى العلوم سواء كانت شرعية أو لغوية أو بلاغية أو غيرها من فروع العلم .
وقد بين العلامة الطاهر بن عاشور منهجه فيه في مقدمته فقال : " وَقَدِ اهْتَمَمْتُ فِي تَفْسِيرِي هَذَا بِبَيَانِ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ ، وَنُكَتِ الْبَلَاغَةِ الْعَرَبِيَّةِ ، وَأَسَالِيبِ الِاسْتِعْمَالِ ، وَاهْتَمَمْتُ أَيْضًا بِبَيَانِ تَنَاسُبِ اتِّصَالِ الْآيِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ ... وَلَمْ أُغَادِرْ سُورَةً إِلَّا بَيَّنْتُ مَا أُحِيطُ بِهِ مِنْ أَغْرَاضِهَا ؛ لِئَلَّا يَكُونَ النَّاظِرُ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ مَقْصُورًا عَلَى بَيَانِ مُفْرَدَاتِهِ وَمَعَانِي جُمَلِهِ كَأَنَّهَا فِقَرٌ مُتَفَرِّقَةٌ تَصْرِفُهُ عَنْ رَوْعَةِ انْسِجَامِهِ وَتَحْجُبُ عَنْهُ رَوَائِعَ جَمَالِهِ .
وَاهْتَمَمْتُ بِتَبْيِينِ مَعَانِي الْمُفْرَدَاتِ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ ، بِضَبْطٍ وَتَحْقِيقٍ مِمَّا خَلَتْ عَنْ ضَبْطِ كَثِيرٍ مِنْهُ قَوَامِيسُ اللُّغَةِ .
وَعَسَى أَنْ يَجِدَ فِيهِ الْمُطَالِعُ تَحْقِيقَ مُرَادِهِ ، وَيَتَنَاوَلَ مِنْهُ فَوَائِدَ وَنُكَتًا عَلَى قَدْرِ اسْتِعْدَادِهِ ، فَإِنِّي بَذَلْتُ الْجُهْدَ فِي الْكَشْفِ عَنْ نُكَتٍ مِنْ مَعَانِي الْقُرْآنِ وَإِعْجَازِهِ خَلَتْ عَنْهَا التَّفَاسِيرُ ، وَمِنْ أَسَالِيبِ الِاسْتِعْمَالِ الْفَصِيحِ مَا تَصْبُو إِلَيْهِ هِمَمُ النَّحَارِيرِ ، بِحَيْثُ سَاوَى هَذَا التَّفْسِيرُ عَلَى اخْتِصَارِهِ مُطَوَّلَاتِ الْقَمَاطِيرِ ، فَفِيهِ أَحْسَنُ مَا فِي التَّفَاسِير ِ، وَفِيهِ أَحْسَنُ مِمَّا فِي التَّفَاسِير ، وَسَمَّيْتُهُ : تَحْرِيرَ الْمَعْنَى السَّدِيدِ وَتَنْوِيرَ الْعَقْلِ الْجَدِيدِ مِنْ تَفْسِيرِ الْكِتَابِ الْمَجِيدِ، وَاخْتَصَرْتُ هَذَا الِاسْمَ بِاسْمِ : التَّحْرِيرِ وَالتَّنْوِيرِ مِنَ التَّفْسِير" .
والكتاب يعد بحق من أحسن تفاسير المعاصرين وأرسخها علما ، وأقواها تحقيقا ، مع ما فيه من بعض المآخذ والتي لم يسلم منها كتاب من كتب التفسير في الغالب ، وهي مغمورة في بحر فوائده .
وبمناسبة مرور نصف قرن على وفاته في 12 أغسطس 1973م بعد أن عاش 97 عاما من حياة حافلة بالجهود العلمية الكبيرة ، أقيمت في تونس العديد من الفعاليات التي تتحدث عن مؤلفاته وجهوده وحياته .
وقد أفرد المجلس العلمي المتميز " أسمار وأفكار " الذي يشرف عليه الدكتور محمد الأحمري حلقة عنه بمناسبة مرور نصف قرن على وفاته تحدث فيها الدكتور إبراهيم الدويري عن جوانب من حياة الشيخ الطاهر بن عاشور وجهوده المختلفة ، وهي حلقة رائعة ممتعة من باحث رصين قضى سنوات من عمره في تتبع الآثار العلمية للأسرة العاشورية حتى صار مرجعا مهما فيها فهو يعرف كل قضاياها .
وهي حلقة رائعة أنصح بمشاهدتها وسأضع رابط الحلقة في أول تعليق .
رحم الله العلامة الطاهر بن عاشور رحمة واسعة ونفعنا بعلمه .
محمد مصطفى العمراني