من أمتع السير الذاتية التي قرأتها مؤخراً " سماء الذاكرة ..ما عرفت ومن عرفت " للدكتور عبد الوهاب الطريري ، الأكاديمي السعودي المعروف ، تحدث في كتابه عن زيارته إلى اليمن وعن أعلامها وخص منهم شيخنا العلامة محمد بن اسماعيل العمراني بحديث رائع سأنقله هنا للفائدة :
كم كنت مشوقاً لزيارة اليمن، ورؤية صنعاء القديمة، وكان أكثر ما شاقني لزيارتها أنها البلد الذي لا زال يحتفظ بعراقته ونكهة تاريخه، وأن السائر في صنعاء القديمة يخطو فيها فيراها كما كانت منذ مئات السنين، ويري التاريخ الذي يروي واقعاً شاهداً، ويري أماجد اليمن وبقايا علمائه وأعلامه على ذات السمت والهيئة.
فلما زرت صنعاء ذهبت من فوري إلى صنعاء القديمة، وزرت جامع صنعاء وتراءت لي هناك أطياف علمائها وأعلامها، وكأنما أرى ابن الوزير وابن الأمير والمقبلي وغيرهم.
وكنت بصحبة أخي الشيخ محمد العامري، وكان دليلنا في جولتنا الشيخ الإمام الشوكاني رحمه الله، فقد تحدث عن صنعاء وجامعها وحلق دروسها في كتابه «منتهي الأرب»، فكأنما كنا نرى ما رواه.
وحول جامع صنعاء ترى الأحياء القديمة بمبانيها وأسواقها وفيها عتاقة وعبق، ومشاهد تاريخية تعيد السائر فيها إلى عصور ماضية، ونمط حياة يوشك على الاندثار.
وكان المنظر والرائحة والضجيج مثيرات للخيال والوجدان، تستثير النفس، وتستحضر التاريخ، فأرى غير ما أرى، وأعيش الماضي حاضراً منظوراً، ولكل ذلك انفعاله ونشوته:
أما هذه «صنعا» نعم إنها هنا **** بطلعتها الجذلى، بقامتها الفرعا
بخضرتها الكحلى، بنكهة بوحها ***** بريا روابيها، بعطرية المرعى
لقد كنت في قلبي حضوراً على النوى *** ولكن حضور القرب عند الأسى أدعى
وفي اليمن التقيت بعلماء أعلام من النمط العتيق كالشيخ القاضي إسماعيل الأكوع، والشيخ محمد بن إسماعيل العمراني، والشيخ حميد قاسم عقيل، رحمهم الله. وهم من علماء الطراز العتيق في التلقي والطلب والتكوين.
لقد كان الشيخ العمراني البقية الباقية من النمط التاريخي لعلماء اليمن ، والذي تلقى العلم عن الأشياخ ، على ذات النمط العتيق في التلقي في الحلق ، والجثو عند الأشياخ ، وأخذ العلم مثافنة بالركب ، ومشافهة من أفواه العلماء .
والشيخ بشخصيته وهيئته وعلميته ، إمتداد لمدرسة الإمام الشوكاني ، وله بتراثه عناية واختصاص ، وكان الشيخ مقصودا من طلبة العلم من نواحي اليمن وجنوب المملكة .
وممن لقيته من علماء جيزان الشيخ يحيى أحمد عاكش (1) ، وكان قد طلب العلم في شبابه في صنعاء ، واخذ عن الشيخ العمراني ، وله به صلة وتواصل .
والشيخ العمراني عالي الإسناد في الرواية ، ولذا كان مطبي عند زيارة صنعاء اللقاء به والأخذ عنه ، فلما لقيته أول مرة أردت أن ألاطفه وأستطيب نفسه، فبادرته بالسؤال عن الشيخ العمراني الذي تعقب الشيخ الشوكاني في " الدراري المضيئة " وقال : قد اضطربت دلاء شيخنا وما صفت مورده من كدر ، وهل هو جده ؟
فطفح البشر على وجه الشيخ ، واستروح للحديث ، وجعل يتمم لي العبارة ، وقال : هو عمي عم أبي ، استروح للحديث ، فحدثته عن الشيخ يحيى عاكش ، وأنه يذكر لنا دراسته عليه ، فزاد استرواحه إقباله علي ، فلما طلبت منه الإجازة قال : الإجازة في البيت ، ولكن خذها مني الآن مشافهة فقد أجزتك ، وعندما أرجع أكبتها لك ، وهو ما فعله رحمه الله .
وحضرت بعض دروسه التي يلقيها بلهجته الصنعانية المحببة ، ولها في فمه لذاذة وجمال .
وكان الشيخ طيب النفس ، حلو المحادثة ، حاضر الطرفة ، حتى جمع بعض مجالسيه طرائفه في كتاب (2) .
وله بذل لنفسه في التعليم عجيب ، فيجلس للطلاب في دروس طوال متتابعة ، على كبر سنة الذي يتجاوز الثمانين حينها مع تدريسه في جامعة الإيمان .
وحدثني طلبته في الجامعة أن محاضراته تستمر ثلاث ساعات ، وتنتهي كما بدأت بذات الحيوية والتشويق ، والطلاب بذات الإنصات والتشوق .
وكان المنظور إليه والمقصود بالإفتاء من أنحاء اليمن ، فهو مفتي البلاد اليمنية ، واقعا عملياً لا منصبا رسمياً .
وكان الطلاب حوله من بلاد متعددة فمن المهاجرين العرب إلى اليمن ، وهو المقصود بالرحلة والاستجازة والمنظور إليه بالعلم والفتيا ، لعلو إسناده ، وسعة علمه وطيب نفسه ، وحسن تعليمه .
وكان رحمه الله سجلا حافلاً لتأريخ اليمن ومعالمه وسألته عن : انتهاب صنعاء وهل كان حاضرا تلك الوقعة ؟
قال : نعم ونهبت فيمن نهب .
وكنت أزوره في كل زيارة تسنح لي إلى صنعاء ؛ فهو من علمائها ومعالمها ، رحمه الله .
وللتوضيح : في عام 1948م دخلت القبائل المناصرة للإمام أحمد صنعاء ونهبت منازل آهالي صنعاء ومنها منزل العلامة القاضي محمد بن إسماعيل العمراني وما فيها من كتب .
وقد تحدث شيخنا العمراني في أحدى المقابلات حيث قال : وقد كان جدودي يملكون عدة كتب ولكن نهبت أيام الفوضى، كما تطلعون على ذلك في كتاب ( فرجة الهم والحزن في حوادث وأخبار اليمن ) لشيخي عبد الواسع الواسعي ، فقد حكى أن الكتب التي نهبت على القاضي عبد الرحمن العمراني (3) ألف مجلد ، وهكذا نهبت كتب والده القاضي محمد بن علي العمراني (4) بأمر من الناصر عبد الله بن حسين ، أما أنا فما قمت ومع الأسرة غير كتاب " شرح الأزهار " ، ولذا تعبت أكثر أيام الطلب .
محمد مصطفى العمراني
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الشيخ يحيى أحمد عاكش الضمدي من علماء صعدة توفي سنة ( 1437) هـ
2 ـ كتاب " سفينة العمراني ـ معارف ولطائف " للسفير عبد الرزاق محمد بن اسماعيل العمراني ، وكتاب " حكايات من اليمن " للدكتور محمد عبد الرحمن غنيم.
3 ـ القاضي عبد الرحمن بن محمد بن علي العمراني ولد في صنعاء بتاريخ 1234هـ ونشأ بصنعاء ودرس على أيدي كبار العلماء فيها حتى أجاد مختلف العلوم الشرعية وألف عدة كتب منها كتاب ( مختصر السيل الجرار ) للشوكاني وتوفي في عام 1273هـ ، انظر : نيل الوطر من تراجم رجال اليمن في القرن الثالث عشر 2/ 38 ، المطبعة السلفية ، (1350هـ ) .
4 ـ وردت ترجمته في كتابنا ( القاضي العمراني ـ رمز التجديد والوسطية في العصر الحديث ) .
