إيقَاظ الإيّمَان
📝 مجدي الهلالي
صلاح الإنسان بصلاح قلبه، ولا صلاح لقلب أو يقظة له من رقدته وغفلته إلا بتربية إيمانية قبل كل شيء، وبداية هذه التربية هي إيقاظ الإيمان في القلب.
ثمة أسباب تكمن في البعد والوحشة في علاقتنا مع ربنا، والحجم المطلوب من الجهد لفتح الدروب بين القلوب وباريها إنما يختلف من شخص لآخر، بناءً على سماكة الحجب التي تحيط بالقلب، وثمة علامات تميّز القلب الحي عن سائر القلوب، غير أن عدم وجود هذه العلامات لا يعني انتفاء الإيمان عنها، بل قد نمرُّ بلحظات نشعر بها بالقرب إلا أنّ هذه اللحظات لا تستمر طويلاً، وهذا مما يؤكد على أهمية المضي قدماً في هذه التربية، حتى نصل إلى اليقظة المستمرة في قلوبنا.
أولًا: أهمية الإيمان للفرد
1- إن الإيمان هو الأولوية الكبري في حياة المسلم، ويتصدر كل ما عداه من حظوظ النفس وضرورات الحياة والمال والأهل والولد، بحيث لو حدث تعارض بينه وبين شيء مما ذُكر رجحت كفته هو، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَأنَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَأنُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ (التوبة: 24). ألم تر إلى حديث الحارث بن مالك الأنصاري الذي رواه الطبراني، حين سأله رسول الله ﷺ: «كيف أصبحت يا حارثة»؟ قال: «أصبحت مؤمنًا حقًّا». فمن منا تخطر على باله مثل هذه الإجابة على مثل هذا السؤال؟ إلاَّ مَن استولت قضية الإيمان على قلبه واهتمامه، وهكذا يجب أن نكون بعون الله تعالى وتوفيقه.
2- الإيمان هو الأصل والأساس الذي ينبثق منه كل عمل وخلق وحال. أرأيت التلازم بين الإيمان والعمل في آيات القرآن الكريم مع سبق الإيمان دائمًا ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾. «فالإسلام علانية والإيمان في القلب»، و«التقوى ههنا. ويشير إلى قلبه ﷺ»، ثم أليس في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح سائر الجسد، وإذا فسدت فسد سائر الجسد ألا وهي القلب؟.
3- الإيمان سبب لأداء الأعمال بإتقان وإحسان ودقة وقوة، فمَن إذًا لقول رسول الله ﷺ: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء» إن لم يكن المؤمن الصادق. ومَن أيضًا لقوله ﷺ: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه».
4- إنَّ الدعوة والحركة اللتين تنطلقان من الإيمان الحي اليقظ يسري فيهما سرٌّ رباني وروح لطيفة تجعل فيهما الأثر والثمرة والبركة على مستوى الفرد والمجتمع والواقع.
5- إن الإيمان هو خير معوان على تحمُّل لأواء الطريق ووعورته، وهو من أبرز الأسباب التي يتنزَّل على مثلها تثبيت الله – عز وجل – وتوفيقه وتأييده، وانظر إلى نداء الله لملائكته ﴿فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ الأنفال: من الآية 12.
6- إنَّ الإيمان هو المَعِين الذي تخرج منه المواقف المبهرة، والبطولات النادرة، والتضحيات الغالية بالأنفس والأموال والأهلين، وفي سيرة النبي ﷺ وصحابته الكرام ما لا يُحصى من الشواهد على صدق هذه الحقيقة.
7- إنَّ الإيمان هو الخيط الذي ينتظِّم حبات عقد الأهداف البعيدة والمرحلية والغايات الكبرى والأقرب، وبه كذلك تترابط الأعمال التي تبدو متناثرةً متبعثرةً.
ثانيًا: أسباب ضعف الإيمان
ومع كل هذه الأهمية لقضية الإيمان إلا أن الناظر العابر يلحظ ضعفَه وفتورَه؛ الأمر الذي لا يصح إغفاله وإهماله بحال، ولعلَّ من أسباب هذه الظاهرة ما يلي:
1- الانغماس في شواغل الحياة: ﴿بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَأمِلُونَ﴾ المؤمنون: 63، ﴿شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا﴾ الفتح: 11، وقد قال عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – عن نفسه: «ألهاني الصفق في الأسواق»، فماذا نقول نحن عن أنفسنا؟ ولا حول ولا قوة إلا بالله.
2- إهمال أسباب زيادة الإيمان وانتعاشه: وقد قال الصحابة – رضوان الله عليهم -: «الإيمان يزيد وينقص»، فإذا ذكرنا الله – عز وجل – فهذه زيادته، وإذا نسينا وغفلنا فذلك نقصانه. وقالوا أيضًا: «إذا كنا معك يا رسول الله رقَّت قلوبنا، وكنا من أهل الآخرة. فإذا خرجنا من عندك وعافسنا الأزواج والأولاد والضيعات قسَت قلوبنا وكنا من أهل الدنيا».
3- كثرة الأعمال والتكليفات، مع تشابكها وتداخلها بما لا يسمح بالتقاط الأنفاس، وإعطاء حق القلب والروح.
4- بُعد هذه القضية المصيرية عن بؤرة الاهتمام القوي، والتركيز الشديد، والمتابعة الدقيقة لدى مستويات التوجيه المختلفة، واستشعار الاستعاضة عن ذلك بجانب الدعوة والحركة وهما فرع من ذاك الأصل.
5- كثرة اللقاءات الإدارية والتنفيذية، التي غالبًا ما تتَّسم بالجفاف، واختلاط الأصوات، وشيوع روح المراء والجدل.
ثالثًا: وسائل إيقاظ الإيمان
(1) على مستوى الفرد:
أ – التفكر في صفحات الوجود المشهودة: وهي عبادة جليلة ذات حظ عظيم، إلا أنها ضمرت واضمحلَّت، وكادت تُنسى في زحام الحياة، فليجعلْها الفرد في جدول المحاسبة؛ فإن تفكر ساعة خير من قيام ليلة، كما قال الحسن البصري- رضي الله عنه – وذلك حتى تعود سيرتها الأولى في حياة السلف الصالح، فها هو أبو سليمان الدراني يقول: «إني لأخرج من منزلي لا يقع بصري على شيء إلا وجدت لله علىَّ فيه نعمة ولي فيه عبرة». ولأمرٍ ما كان من هدي النبي ﷺ في قيام الليل أن يقرأ: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَأبِ﴾ آل
عمران: 190، وقد قال عنها: “ويل لمن قرأها ولم يتدبرفيها”
ب – التفكر في كتاب الله تعالى: امتثالًا لقول الله تعالى: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾ محمد: 24، وقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ القمر: 17، وما أطال عبدٌ النظرَ في كتاب الله، وأعملَ الفكرَ إلا سرَت أسراره ولطائفه في قلبه؛ حتى يجد فيه صدى موجها وتناغم رنينها، وهنا. وهنا فقط يعرف العبد معنى حياة القلوب. ولقد قام النبي ﷺ ليلَةً بآية يرددها، وهي: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ المائدة: 118.
ج - التفكر في نعم الله علينا: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَأنَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾ إبراهيم: 34؛ وذلك حتى يستشعر القلب فضله – عز وجل – ومنته، ويستشعر العبد مع ذلك أيضًا تقصيره وغفلته؛ فيستيقظ وينهض، وأقل هذه النعم هو ما يراه كثير من الناس من حظوظ النفس ومتاع الدنيا، من منصب وجاه ومال وولد وطعام وشراب وملبس ومركب وزينة، أما أجر هذه النعم فتتمثل في الإيمان بالله – عز وجل – ومعرفته، والتوفيق إلى طاعته، واتباع نبيه ﷺ.
د – التفكر في سنن الله في خلقه، وتقلُّب أحوال العباد بين العطاء والمنع، والتقدم والتأخر، والرفع والخفض، والعز والذل، والقوة والضعف، ومحاولة الوقوف على أسباب هذا، والاستفادة منها وتطويعها، وتجنب مصادمتها.
هـ – الاستكثار من العبادات المحضة: مع المواظبة عليها وأدائها بخشوع وحضور قلب، وشهود عقل؛ حتى نسبر أغوارها، ونعرف أسرارها، ومن ثمَّ نجني ثمارها ونجد آثارها، ومن هذه العبادات الصلاة المكتوبة في المسجد في أول الوقت، والنوافل، وخصوصًا قيام الليل، وقراءة القرآن، وذكر الله – عز وجل – وصيام الهواجر.
و – مصارعة الباطل بالحق: فهذا دليل على تمكن الحق من قلب العبد واعتزازه به، وحرصه على إقامته، ثم إذا شاهد جحافل المبطلين بخيلهم وخُيلائهم علم أن لا ملجأَ له إلا إلى الله – عز وجل – فازداد توكلًا عليه، وثقةً به، ويقينًا في نصره، ومن ثم يزداد إيمانه في قلبه، ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَأخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَأنًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ آل عمران: 173، ﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَأبَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَأنًا وَتَسْلِيمًا﴾ الأحزاب: 22