الدرس المحمدي للاوصياء على الناس مقال رائع للدكتور فواد البنا

الدرس المحمدي للاوصياء على الناس مقال رائع للدكتور فواد البنا



الدرس المحمدي للأوصياء على الناس!

أ.د.فؤاد البنا

هناك أناس تنطلق أفعالهم من يقين يعتري قلوبهم بأنهم مُلّاك للحقيقة المطلقة، وتنطق ألسنة أحوالهم بأنهم أوصياء على الناس، ويقدمون أنفسهم كأنهم جنود لحماية الإسلام من الاختطاف وحرس للقرآن من التحريف بل وكأنهم حراس للسماء من أي هرطقة وفق أفهامهم، وأنه لولاهم لاضمحلت الشريعة وخرج المسلمون من الإسلام!

وليعلم هؤلاء بأن الله قد جعل أحب الخلق لديه درسا عمليا في نهيهم عن هذا الاعتقاد ودعوتهم لمجانبة السلوكيات التي تشير إلى إصابتهم بهذه الآفة!

فقد حدد الله الغاية من مبعث رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بالرحمة لكل العوالم، فقال له تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} وهو أسلوب لغوي يفيد الحصر والقصر، وذلك حينما يجتمع حرف النفي وحرف الاستثناء في جملة واحدة كما نعرف، ولقد أثبتت الأيام أن المصطفى محمدا صلى الله عليه وسلم كان بلسما لجراح البشر وترياقا لأدوائهم الروحية والنفسية والعقلية والاجتماعية، وأنه كان سحابة لا تهطل إلا بما يحيي النفوس ويبهج القلوب وأنه لم يأتِ إلا بما ينفع الناس في المعاش والمعاد، ووصل به الحال أنه في يوم القيامة حينما تدنو الشمس من رؤوس الخلائق ويقف الناس عرايا على صعيد واحد ويشعرون بأهوال يوم الفزع الأكبر، ويضج كل واحد منهم بقوله: نفسي نفسي، بمن فيهم الأنبياء والمصلحين، فإنه يقول: "اللهم إني لا أسألك نفسي ولكن أسألك أمتي أمتي"!

لقد كان هذا الرحمة المهداة للناس جميعا شديد الخوف عليهم من النار، وكان يعرف حقيقة الدواهي التي تنتظر المعرضين عن هدى الله؛ فكثّف من أساليب بلاغه لهم في كل وقت ودخل عليهم من كل باب، وصار الهمّ يعتصر قلبه وينغص عليه حياته ويقضّ عليه مضجعه، حتى كاد أن يهلك نفسه؛ فنهاه الله في عدد من الآيات عن إهلاك نفسه، وأهم من ذلك أنه حدد له وظيفته الحصرية، وهي البلاغ والبيان والإنذار، وذلك في مواضع كثيرة وبأساليب متنوعة، فقد قال له ربه: {إن أنت إلا نذير}، وأبان له هذا الأمر بأسلوب آخر فقال له عز وجل: {إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل}[هود: ١٢]

وحينما أعرض عنه المشركون واعطوه ظهورهم حاول المجيء لهم من اتجاه آخر، فقال له تعالى: {وإن تولّوا فإنما عليك البلاغ} [آل عمران: ٢٠]، وأكد له أن هذه الحقيقة ثابتة في كل الأزمان وماضية في كل الرسالات، فقال عز وجل: {وما على الرسول إلا البلاغ المبين}.

وحينما حاول استفزاز عقولهم والسيطرة على قناعاتهم من باب الحب لهم والخوف عليهم، قال له المولى تعالى: {فذكّر إنما أنت مذكر. لست عليهم بمسيطر}.

وفي ذات السياق نفى الله تعالى عن نبيه محمد الوكالة على خلقه، فقال له: {لستَ عليهم بوكيل}، بل وأمره أن يؤكد للمشركين أنفسهم هذه الحقيقة، فقال له: {قل لست عليكم بوكيل}[الأنعام: ٦٦]

وعاد ليؤكد له بأن واجبه منحصر في قول كلمة الحق التي ترسم معالم الطريق المستقيم إلى الله وتبرز محاسن الإسلام وتحذر من عواقب الكفر به في الدنيا والآخرة، مع ترك الحرية التامة للناس ليختاروا طريقهم إلى الإيمان أو الكفر بكامل إرادتهم، فقال له تعالى: {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر}[الكهف: ٢٩]

ولما غلبت رحمته صلى الله عليه وسلم على واجبه الدعوي، قال له تعالى بصورة عتاب أقوى: {وما أنت عليهم بجبار فذكِّر بالقرآن من يخاف وعيد}[ق: ٤٥].

ولأنه صلى الله عليه وسلم قد رأى النار بأم عينيه ورأى ما يعتمل فيها من استعدادات لتعذيب أهل الكفران والنفاق والفسوق؛ فقد حاول الولوج إلى قلوبهم واقتيادهم من عواطفهم؛ فقال له المولى عز وجل بأسلوب الاستفهام الاستنكاري: {أفأنتَ تُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين}؟!

فلماذا هذه الكثافة القرآنية في التأكيد على حصر وظيفة النبي صلى الله عليه وسلم في البلاغ والبيان الذي لا يتجاوز القول البليغ والتوضيح الكامل، مع التأكيد على نفي أي دور آخر، والنهي عن ممارسة أي أسلوب غير متصل بهذه الوظيفة الحصرية؟

لقد أراد الله عز وجل من خلال توجيه رسوله، أن يؤكد للدعاة والمصلحين والوعاظ في كل زمان ومكان بأنه لا سلطة لهم سوى سلطة البلاغ بأفصح بلاغة وسلطة البيان بأقوى بيان، وأنهم ليسوا جنودا للرحمن ولا حراسا للسماء، وأن الله غني عن عباده جميعا، وأن طاعتهم لن تزيد في ملكه شيئا ولو كانت قلوبهم جميعا مثل قلب النبي صلى الله عليه وسلم، وأن عصيانهم لن ينقص من ملكه شيئا ولو كانوا على أفجر قلب رجل منهم!

وكرر الله هذا الأمر كثيرا من خلال نموذج حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم؛ لعلمه تعالى بأن الناس ينسون بطبيعتهم البشرية، وأن الدعاة في غمار انغماسهم الدعوي قد تلتبس عليهم الأمور أو يُلبس عليهم الشيطان حتى يفسد عليهم أعمالهم، فتكرر هذا التوجيه في مواضع عديدة من القرآن وبأساليب متعددة.

x