#مسجد (معاذ بن جبل) في قرية الجند بمحافظة تعز في الجمهورية اليمنية.
أ.د.فؤاد البنا
يقع هذا المسجد في قرية الجند التي تستوطن شمال شرق مدينة تعز وتبعد عنها بحوالي ٢٠ كم. وسمي باسم الصحابي معاذ بن جبل لأنه هو من بناه حينما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم لتعليم أهل اليمن أمور دينهم وتنظيم حياتهم وفق شريعة الإسلام. ويسمى أيضا مسجد الجند نسبة لقرية الجند المبني فيها، والتي كانت في عصر معاذ بمثابة عاصمة لليمن، لكنها تعرضت للتدمير من قبل الإماميين والإسماعيليين في فترات مختلفة حتى صارت مجرد قرية متخلفة، وتبدو آثار الدمار واضحة من خلال ارتفاع القرية عن المسجد بحيث يتم النزول إلى المسجد عبر سلم حجري مكون من عدد من الدرج، مع أن المسجد كان في قمة الربوة التي بنيت عليها القرية!
هذا المسجد هو الأقدم بين مساجد اليمن، فقد جرى تشييده سنة ٦هـ، وقيل سنة ٩، ولأن الروايات تؤكد أن هذا المسجد شهد إقامة أول صلاة جمعة على يد معاذ الذي خطب في اليمنيين الجمعة، وأن ذلك تم في أول جمعة من شهر رجب فإن جموعا من اليمنيين ما زالت تتوافد كل عام في أول جمعة من رجب، من أجل إحياء هذه الذكرى، وتستمر فعاليات الحفل أسبوعا كاملا، وربما كدرتها بعض الخرافات التي تمارسها بعض المجموعات الصوفية!
وعلى كل حال يبدو لي أن ٤ مساجد قد شيدت في ذات العام على مستوى اليمن، وهي هذا المسجد ومسجد الأشاعرة في زبيد والمسجد الكبير في صنعاء ومسجد الشحر أو شبام في حضرموت؛ ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل في نفس الوقت ٤ من صحابته إلى اليمن كمعلمين وقضاة.
وبلا شك فإن مسجد معاذ لم يبق على حاله بعد أكثر من ٣ قرون على بنائه، فأعاد الحسين بن سلامة (٣١٧ - ٤٠٢هـ) بناءه، ثم تعرض هذا المسجد العظيم لسلسلة من التجديدات التي استدعتها المشاكل التي وقعت له إما لأسباب بشرية أو طبيعية، وفي الوقت الذي كانت الدول الشيعية تلحق به الأذى الذي وصل به إلى الدمار، باستثناء الدولة الصليحية، كانت الدول السنية تعيد بناءه أو تقوم بصيانته وتجديده، وعلى رأسها الدولة الطاهرية، والدولة الأيوبية.
وكنت قد درست المرحلة الثانوية في معهد معاذ بن جبل الواقع بجانب قرية الجند، فعشت في أكناف هذا المسجد ٣ سنوات، وكنت أشم عبق التأريخ وأتخيل أعلم الناس بالحلال والحرام الذي أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بحبه له، وهو يمشي بخطى ثابتة أو وهو يطرح جبهته على أرضية هذا المسجد في سجدات خاشعة، أو وهو يلقي مواعظ مؤثرة على مسامع الناس، أو وهو يصقل عاطفة اليمنيين ليحول انفعالاتهم إلى فاعليات ترتقي بالذوات وتصنع الحياة وفق منهج هذا الدين العظيم، ومن ثم فإني أعرف كل زاوية في هذا المسجد وأعرف بعض الخزعبلات التي ينسجها بعض الجهلة حول المسجد وفوائد زيارته في أول جمعة من رجب!
ومن المؤكد أننا لا نعرف الشكل الأول لهذا المسجد، لكن شكله الحالي مستطيل؛ إذ يبلغ طوله من الخارج ٦٥.٥م وعرضه ٤٣م، ويحيط به سور تنتظم فيه ١٤٤ شرفة مسننة بصورة جميلة.
يتكون المبنى من مصلى رئيسي في جهة الشمال حيث تقع القبلة، وفي القلب يوجد صحن مكشوف تبلغ مساحته حوالي ٩٠٠م٢ ويوجد في وسطه عمود مربع ارتفاعه حوالي ٢م كان المؤذنون يستخدمونه كمزولة لتحديد أوقات الصلاة، وتحيط به ٣ أروقة، ولا توجد أرقام عن سعة المسجد لكن معرفتي به عن قرب تجعلني أتحدث عن بضعة آلاف من المصلين يستوعبها المصلى الأساسي والصحن والأروقة!
يتميز المسجد بمئذنته الشاهقة ذات الشكل الثماني والنقوش البديعة، وقد أصابتني بشيء من الدوار حينما صعدتها في المرحلة الثانوية عبر درج حلزوني، وذلك في ظلام دامس إلا من ومضات تأتي بها نوافذ صغيرة ومتباعدة، وحينما يصل المرء إلى الشرفة الوحيدة القريبة من القمة ينسى ما أصابه وهو يستنشق الهواء العليل ويرى بعينيه آفاقا ممتدة من الجمال بين محافظتي إب وتعز ولا سيما في فصل الصيف!
وفي الداخل يتجلى جمال المسجد في علو سقفه الذي يتكئ على عشرات الأعمدة الاسطوانية المتوسطة القطر، ويتزين جدار القبلة بمحرابين يفصل بينهما منبر خشبي يجمع بين الارتفاع والجمال، فهو تحفة فنية زاخرة بالزخارف المحفورة والمخرمة والمجمعة، ويقال بأنه يرجع إلى زمن طغتكين بن أيوب الذي عاش في القرن السادس الهجري.
وفي فناء المسجد توجد دورات مياه حديثة شيدتها مجموعة شركات هائل سعيد وشركاه قبل عقود، وتوجد أطلال مقببة لبقايا المدرسة العلمية التي كانت عامرة ذات عصر!