العلامة الراحل الدكتور عمر فروخ لمن لا يعرفه مع أجمل مقتطفات من مذكراته رحمة الله تعالى عليه

العلامة الراحل الدكتور عمر فروخ لمن لا يعرفه مع أجمل مقتطفات من مذكراته رحمة الله تعالى عليه



العلامة الراحل الدكتور عمر فروخ ( 1906ـ 1987م )

لمن لا يعرفه هو عالم لبناني موسوعي يعتبر من آخر الموسوعيين العرب ، ألف أكثر من 100 كتاب ، منها تاريخ الأدب العربي (6 مجلدات) تاريخ الفكر العربي ـ التبشير والاستعمار ـ الأسرة في الشرع الإسلامي ـ تجديد في المسلمين لا في الإسلام ـ العرب في حضارتهم وثقافتهم ـ التصوف في الإسلام ـ عبقرية اللغة العربية ـ العرب والفلسفة اليونانية ـ الإسلام والتاريخ ـ وكتب كثيرة في التراجم، وكتب مدرسية للمرحلة الابتدائية وأخرى للمرحلة الثانوية، في اللغة العربية والفلسفة والتاريخ.

درس في المدارس والجامعات اللبنانية والعربية أكثر من نصف قرن حيث عمل عمر فروخ في التدريس، ولم يفضل عليها مهنة أخرى، فدرس في مدارس جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت، ومدرسة الثانوية العالمية في بيروت، وفي دار المعلمين في بغداد وفي بومباي وكان عضوا في جمعيات ثقافية خيرية .

فضلا عن انشطته في مجامع اللغة العربية وفي الصحافة ، حيث ظل يكتب في الصحف والمجلات حتى قبيل وفاته ، كما أصدر مجلة " الأمالي " وهي مجلة ثقافية متنوعة توقفت بعد سنوات من صدورها فقد أثرت على عمله في مجال التعليم مما دفعه لإيقافها ؛ فقد أولى الدكتور عمر فروخ التعليم جل اهتمامه ما جعله يرفض تولي المناصب في الدولة ويبتعد عن السياسة ، فلم ينغمس فيها بل لم يتكلم فيها أبداً. وعن هذا الأمر كتب يقول :

ـ سألني نفر من أصدقائي فقالوا : لماذا لا تكتب في السياسة ؟ فقلت لهم : اثنان لا يتكلمان في السياسة : الذي لا يعرف شيئاً في السياسة والذي يعرف كل شيء من السياسة . والواقع أن السياسي الحق يعمل ولا يتكلم . فإذا ه أراد أن يتكلم ، عمد إلى تدوين عدد من الحقائق في أراق ثم ترك تلك الأوراق لتنشر بعد وفاته .

• ناظر المستشرقين وأبهرهم :

بعد حصوله على البكالوريا من الجامعة الأمريكية في بيروت سافر إلى ألمانيا للدراسة فيها ، وقد ألتقى بعدد من المستشرقين وحاورهم وأبهرهم ، كما رأى المستشرق بروكلمان وراسل الكثير من المستشرقين ، وطاف معظم مدن ومناطق ألمانيا قبل الحرب العالمية الثانية وشاهد هتلر عن قرب وأستمع إلى خطاباته وكان في إحداها قريب من منصة الخطاب وله آراء عن ألمانيا قبل الحرب العالمية الثانية حيث أعجب بالنظام الدقيق فيها وسوف نعرض في مذكراته بعض من آرائه في مقال قادم .

اقترح عمر على أستاذه المستشرق يوسف هال موضوعات عديدة، استحسنها ثم قال له استاذه: إن نفرا من المستشرقين يعتقدون أن الإسلام لم يكن له نفوذ أول الأمر وان هذا النفوذ الديني المشهور للإسلام هو من صنع المؤرخين العباسيين، وان الشعر العربي المعاصر للدعوة الإسلامية لا ينكشف على أثر للإسلام بين العرب. فهل تستطيع، يا عمر، نقض هذا الرأي؟

فراح عمر يجمع الشواهد، حتى تكون لديه منها الكثير، فضيق نطاق بحثه حتى خرج بموضوع لأطروحته: «الإسلام كما يظهر من الشعر العربي من الهجرة إلى موت الخليفة عمر بن الخطاب».

أتقن عمر إلى جانب العربية: الفرنسية والألمانية والإنجليزية، وألم بالفارسية والتركية. وكان يؤمن بضرورة الكتابة عن الإعلام وكشف أسرار التاريخ. كان يكتب عن الإعلام مستنطقا أحداث حياتهم موردا آراءهم بألسنتهم دون أن يكون محاميا عن أحد منهم. إلا ان الكتب الإسلامية شغلته كثيرا، فمن خلال عمله ومؤلفاته خدم الإسلام ولغة القرآن.

• شهادة رائعة عن جهوده :

يقول عنه الدكتور عمر عبيد حسنة في مقدمة كتاب " عمر فروخ في خدمة الإسلام " لمؤلفه الأستاذ أحمد العلاونة والصادر في سلسلة كتاب الأمة : ( ولعل من النماذج الفريدة، التي تشكل ظاهرة قائمة بذاتها، تستحق الدراسة والتحليل، من خلال الظروف التي وجدت فيها، والمجاهدات التي اضطلعت بها، شخصية الدكتور عمر فروخ ، رحمه الله، الذي يذكر بجيل الموسوعيين من الأعلام والرواد ، الذين جمعوا بين الثقافة العربية الإسلامية والثقافة الغربية.

فلقد كان شخصية فذة من أولى خصائصها أنها كانت بعيدة عن الانتماء الحزبي، فأفاد منه الجميع، لذلك كان يتمتع بالطلاقة والرحابة والحرية في النظر، بدون قيود مسبقة، على الرغم من اعتزازه بالعروبة وإيمانه بالإسلام، ودوره في بناء الأمة وإخراجها وإسهامها في الحضارة الإنسانية، والارتقاء بلغتها ونقلها إلى مصاف اللغات العلمية والعالمية.

ارتكز إلى التربية والتعليم، وانطلق منه كانطلاقة الإسلام الأولى، أول ما نزل من الوحي ( اقرأ ) ، واعتبره طريق النهوض الذي لا طريق سواه..

فالمعرفة هـي القوة، وهي النور، وهي الحضارة، وهي الشخصية؛ ويمكن وصفه إلى حد بعيد بأنه رجل معلم.

وعلى الرغم من أنه كان متنوع الاهتمامات، إلا أن ذلك لم يبعثر شخصيته ويفكك هـمته أو يفل عزمه.. اشتغل في الأدب، وإليه يعود الفضل في وضع كتاب عن (تاريخ الأدب العربي) بعد أن كان العرب والمسلمون يعيشون عالة على المصدر الأجنبي.

وكان له نظرات في اللغة، والفلسفة، والاجتماع، والتاريخ، والتشريع، فالثقافة عنده هـي الشخصية والبوصلة والدليل للعقل الإنساني.

كان شخصية جادة ومأنوسة، وكان بعيدا عن المهاترات بطبعه، لذلك لم تشغله الشحناء، ولم يجر وراء الخصومات والعداوات، ولم تنل منه.

كان بحق شاهد القرن المملوء بالأحداث الكبرى؛ فلقد سقطت الخلافة الإسلامية، وقامت الحروب العالمية، الأولى والثانية، وحصلت فيه النكبات للكثير من بلاد المسلمين، وجاء الاستعمار الحديث إلى معظم بلاد المسلمين مسبوقا بالغزو الفكري الذي اتخذ التبشير غطاء له؛ وبالإمكان القول: إن كتابه (التبشير والاستعمار) الذي شكل ثقافة جيل بل أجيال، ووقاية جيل بل أجيال، ما يزال حتى اليوم مرجعا للمكتبة العربية والإسلامية؛ والكثير ممن يشتغلون بهذه القضايا ما يزالون مرابطين عند كتابه، على الرغم من تطور الأساليب وتغير المواجهات.

لقد واجه عمر فروخ ، رحمه الله، الكثير من الثغور المفتوحة في الجسم الإسلامي، فعند أيها يرابط ؟

كان يمثل صيحة النذير؛ ينبه إلى المخاطر، ويقرع طبول الإنذار بالخطر، ويستنهض الأمة، ويصوب رؤيتها، ويبصرها بتراثها.

لكن على الرغم من صعوبة المواجهة وشراسة العدو كان بطبعه أنيسا واثقا من منهجه، ذو شخصية محببة، قادرة على التعايش، أفاد من تكوين بلده لبنان سمات التنوع الثقافي والقدرة على التعايش، والمرونة، وإجادة الحوار بشكل هـادئ ورزين، دون أن يعطي الدنية في دينه ).

قرات مؤخرا مذكراته " غبار السنين " فأعجبت بها وتمنيت لو أنها 3 ألف الصفحات لروعتها وجمال ما فيها من قصص ومعلومات وفوائد ..

وسوف أعرض لكم نماذج منها في مقال قادم بإذن الله ..

كنت قد وعدتكم بنشر مقتطفات من مذكرات العلامة الموسوعي الراحل الدكتور عمر فروخ ـ رحمة الله تغشاه ـ " غبار السنين " ، والآن أوفي بوعدي ، وقد أحببت هذه المذكرات الشيقة الثرية بمعلومات وقصص وأحداث ، ومن الطريف أنني حين بدأت بقراءة مذكرات الدكتور عمر فروخ تعرضت لخديعة بسبب العجلة وقلة التركيز ، حيث قمت بالنزول إلى أسفل الصفحات الإلكترونية دفعة واحدة وقرأت الرقم 720 صفحة ، فقلت في نفسي : هذا كتاب كبير من سيقرأه ؟! ومن سيجد الوقت الكافي ليقرأ كل تلك الصفحات ؟!
وكدت أترك الكتاب ولكنني قلت : سوف أقرأ بعض الصفحات من أول الكتاب ، وبدأت القراءة وغرقت في الكتاب لما فيه من متعة متفردة وأسلوب رائع وعرض مشوق ، ولما في قصصه من الإثارة والطرافة ، إضافة إلى المعلومات الهامة ، والنصائح القيمة التي يقدمها بعد كل قصة ، كما لمست في الكتاب صدق الطرح ، والعفوية في السرد ، ما جعلني أدرك بأن قراءة هذا الكتاب ستشكل إضافة كبيرة لي ولابد من إكماله .
مضت ساعة ونصف وإذا بي قد تجاوزت 100 صفحة ، كنت قد بدأت بعد الفجر ، ولذا فقد أشرقت الشمس وطلع النهار ، ومضت ساعات ، وإذا بي أصل إلى الصفحة 260 لأكتشف أنني قد أكملت الكتاب وأن كل صفحات الكتاب 270 صفحة بالفهارس .!
وإذا بي أكتشف أن الصفحات كلها 270 وليست 720 كما قرأتها على عجل وقلة تركيز .!
وحزنت لأن الكتاب أنتهى وعدت مجددا للقراءة فيه لروعته ..
بدأ الدكتور عمر فروخ مذكراته بالكتابة عن عمله في الصحافة ، والذي أستمر لـ 65 عاما ، تحدث عن هذه الفترة الطويلة منذ العام 1916م إلى العام 1982م وما فيها من تجارب ومواقف وقصص ، إضافة إلى الحديث عن إصداره لمجلة " الأمالي " الثقافية التي أوقفها بعد سنوات من صدورها بعد أن تزايدت الضغوط عليه من مختلف الجهات كل جهة ترغب في أن تعمل المجلة لصالحها ، ولذا أوقفها وركز جهوده في التعليم والتأليف والعمل الخيري .

✅ في ألمانيا قصص ومواقف

تحدث عن أساتذته في بيروتي بداية من البيت إلى المدرسة إلى الجامعة الأمريكية ، وعن علاقة الآباء بالبنين والإدارة بالتعليم وأراءه في هذا المجال والقصص والمواقف التي عاشها أثناء الدراسة والإدارة والتدريس ، وعن أسباب ذهابه إلى أوربا لمواصلة الدراسة العليا ..
يقول : ( قبل أن أذهب إلى ألمانيا لمتابعة دراستي العالية كنت أحمل شهادة بكالوريوس علوم من الجامعة الامريكية في بيروت ، وكنت قد عملت سبع سنوات وألفت عددا من الكتب المدرسية وأتقن أربع لغات هي : العربية والإنجليزية والألمانية والفرنسية ..
ولذا حينما كنت في أوربة أتابع الدراسة ؛ سألني نفر كثير من الأساتذة الذين درست عليهم: لماذا جئت إلينا ؟ إنك لا تحتاج إلى هذا المستوى الذي تدرسه علينا .
ولكنها الرحلة في طلب العلم ولقاء الأساتذة الكبار والاستفادة من اختبارهم ومعرفة طرق تفكيرهم وأساليب بحثهم .
ولذا راسلت عشرات المستشرقين وزرت ثلاثاً وخمسين مدينة وبلدة وقرية في ألمانيا وحدها ، أسافر بالقطار لساعات ، وكنت أحضر الأعياد القومية الألمانية ، ولذا فقد حضرت عدة خطابات لهتلر وهذه سأتحدث عنها فيما بعد ).
لما ذهبت إلى ألمانيا في العام 1935م لمتابعة الدراسة كنت في الثامنة والعشرين ، وقد تجاوزت مرحلة العاطفة ، ومنذ وصلت إل ألمانيا وأخذت بمقابلة الأساتذة الذي أخترت أن أدرس عليهم ، قال لي وأحد منهم ثم ثان وثالث : يحسن أن تتخذ رفيقة لك يساعدك التحدث إليها على صقل لغتك الألمانية التي تعلمتها في بيروت مع العلم بأنني كنت قد تقدمت إلى امتحان اللغة الألمانية ونجحت فيها نجاحا طيباً .
وقيض الله لي فتاتين شقيقتين من مدينة هانوفر . لقد حمدت الله على أنهما كانتا اثنتين وشقيقتين ( فإن كل واحدة منهما كانت رقيبا على الثانية ) .
جاءت الصغرى يوماً إلي تقول : أريد أن أعتذر إليك . فقلت لها : مم تريدين الاعتذار ؟
فقالت : كنت قد كذبت كذبة ذكرت فيها اسمك ، أرادت صديقة لي أن أرافقها لتشتري ثوباً فاستأذنت أمي في ذلك فلم تأذن لي . ولكن الصديقة كانت تلح علي في التليفون إثر التليفون . ففي اليوم التالي قلت لأمي : أنا ذاهبة إلى عمر . فأذنت لي . ولكن لم آت إليك ، بل ذهبت إلى صديقتي .
وفي يوم من الأيام جاءت صاحبة البيت تقول لي : فلانة ( الفتاة الصغرى ) بالباب فهل آذن لها ؟
فقلت لها : لا لا تسمحي لها . فعلت ذلك تصديقاً للحديث الشريف : من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه . وانصرفت الفتاة . ولم أسمع منها كلمة عتاب بعد ذلك .
وذات مرة قالت لي فتاة ، وكانت تحضر درس باول شوارتز ( أستاذ في الجامعة ) أنها تود أن تستفهم مني أشياء من الإسلاميات مستغلقة عليها . فقلت : لا مانع عندي . فسكتت . ثم سألتني :
ـ أأكون في البيت بعد الظهر . فأجبتها بالإيجاب . وفوجئت بها تدخل علي في الساعة الثانية بعد الظهر .
كانت صاحبة البيت تعلم علم اليقين بأنه لا يزورني في غرفتي فتيات . فلم أعلم كيف سمحت لهذه الفتاة بالدخول ؟
وفي المساء ـ وبعد أن غادرت تلك الفتاة المنزل ـ جاءت صاحبة البيت إلي معتذرة تقول : هذه الفتاة من أسرة وجيهة معروفة في ليبزغ ، وإن بين أسرتها والأسرة التي أسكن أنا عندها زيارات متبادلةً . فلما طرقت هذه الفتاة الباب وقالت إنها آتية لزيارتي ، لم يكن بإمكان صاحبة البيت أن تردها ولا أن تطلب منها التمهل كي تسألني رأيي .

✅ زميلي الذي كاد ينتحر بسبب فتاة !

وذات مرة دعاني الطلاب العرب إلى حفلة تعارف مع عدد من الألمان أيضاً ، شباناً وشابات .
كان الساهرون يتناولون أنواعاً من المشروبات الكحولية ، وكنت أتناول في كل ساعة قدحاً من البرتقال ، وأثناء تطوافي في الحفلة تقدمت مني فتاة سمينة عظيمة الجسم ( بهكنة هركولة ) كما يقول طرفة بن العبد ، وكانت تلبس في تلك الليلة الساهرة ( للتنكر ) شورتاً ( سروالاً قصيراً ) وقالت لي :
ـ أتريد أن تسقيني كأساً ؟
فقلت لها : حباً وكرامة . ثم ذهبنا إلى المشرب وقلت لصاحبه أن يسأل الفتاة عما تريد . وبعد أن أخذت هي المشروب الذي تريده دفعت انا ثمن ذلك الشراب ثم تركتها تشرب كأسها وحدها .
وفي منتصف الليل جاء إلي صديقان وقالا : أسرع ، أسرع . فلان الياباني يريد ان ينتحر ، فقلت لهم : وما صلتي أنا بذلك ؟ لست شرطياً ولا محققاً عدلياً .
قالوا ولكن الأمر يتعلق بك . هذا الشاب الياباني ، معه فتاة ينفق عليها منذ عامين . وهي الآن تريد أن تتركه في سبيلك .
وخفت أن ينفذ الشاب الياباني عزمه فيبقر بطنه . قلت للفتاة أمامه : هل ألتقينا من قبل ؟ فقالت : لا ؟ فقلت لها : هل تعرضت أنا لك الليلة بسؤال أو بكلام ؟ فقالت : لا . ثم تركتها مع صاحبها ، وأنا أقول في نفسي : إذا بقر هذا الياباني بطنه الليلة ، فلن يكون ذلك بسببي .
وفي الصباح يوم 7 / 2 / 1936م كنا لكنا نقف أمام النادي ننتظر وسائل النقل ، والثلج يغطي الأرض وكل مكان ، ويكاد يوقف الحركة ، وفي هذا الحشد رأيت الفتاتان الشقيقتان الصغرى والكبرى والذي أتعلم منها إتقان اللغة ، ولما طال الانتظار ولم يأت القطار قالت البنت الكبرى : إذا أراد عمر أن يذهب معنا فنحن نذهب ماشيتين .
ناولت ساعدي الأيمن للكبرى وساعدي الأيسر للصغرى ، ثم سرت بهما على ذلك الثلج الذي كان يغطي الأرض من غربي برلين إلى جنوبي برلين ، حيث تسكنان ، ثم تركتهما وتابعت سيري إلى الشمال الشرقي من برلين حيث غرفتي .
في الليلة الأخيرة التي بتها في برلين انتبهت من النوم ، بعد منتصف الليل ، على قرع شديد على الباب ، نهضت من فراشي وذهبت إلى الباب فراعني أني رأيت وراءه فرنسيسكا ( بنت صاحبة البيت ) . لم يكن بد من السؤال والحديث ( فأنا ابن الشرق المسلم لم تغير ألمانيا من أخلاقي شيئا ) . فقلت لها : أين كنت إلى الآن ؟
قالت : أنا راجعة من سويسرة .
قلت لها : كان من الأفضل أن تنتظري قليلاً في سويسرة ثم تأتي بقطار الصباح .
فأجابت ( وفي عينيها دمعة غير عزيزة ) : كنت مع خطيبي في رحلة إلى سويسرة ثم اختلفنا أمس بعد الظهر اختلافاً حملني على أن أتركه نهائياً ، من أجل ذلك جئت بقطار الليل . فسألتها وما سبب الاختلاف الذي أدى إلى هذا الفراق العاجل ؟
فقالت ( ودمعة ثانية في عينيها ) ـ وسأورد كلامها حرفاً حرفاً : لقد بطل إعجابه بصفاتي الجسدية .!
وفي الصباح كانت فرنسيسكا وامها وأبوها يقفون لتوديعي عند باب الدار وأنا راجع إلى الوطن . ولقد كان في عيني فرنسيسكا دموعُ غير الدمعتين اللتين كانتا في عينيها بالأمس .
هذه الحادثة ذكرتني بقصة ، كنت مع أحد الأساتذة في ألمانيا ، وكنا في نزهتنا المسائية المألوفة ، تحدثنا ثم سرنا بضع خطوات ونحن صامتان .
بعد ذلك ألتفت إلي وقال : أنتم المسلمين سعداء .
فقلت له : في أي الأمور ؟
فقال : أن المسلم في ( العادة المألوفة ) حينما يتزوج ينتقل من عالم ضيق إلى عالم أوسع ، إلى عالم أكثر تنوعاً وأزهى ألواناً . أما عندنا فإن أحدنا إذا تزوج لم يجد بعد الزواج شيئاً لم يكن يعرفه قبل الزواج .
وفي الحلقة القادمة سنواصل سرد قصص الدكتور عمر فروخ الشيقة ألمانيا ، وذكرياته مع هتلر وأساتذة الاستشراق والعقاد وطه حسين الذي أراد زيادة حروف في اللغة العربية حتى يتم كتابة أسماء كتاب الغرب أمثال فيكتور هوجو وكيف عارض عمر فروخ والعقاد هذه الفكرة في مجمع اللغة العربية بالقاهرة حتى تم رفضها ..

محمد مصطفى العمراني

محمد مصطفى العمراني

x