سورة التغابن مع تفسيرها
﴿ {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)} ﴾
۞۞۞۞۞۞۞
هذه السورة أشبه شيء بالسور المكية في موضوعها وفي سياقها وفي ظلالها وإيحاءاتها، وبخاصة المقاطع الأولى منها.
فلا يكاد الجو المدني يتبين إلا في فقراتها الأخيرة.
والفقرات الأولى إلى ابتداء النداء: {يا أيها الذين آمنوا}.
تستهدف بناء أسس العقيدة، وإنشاء التصور الإسلامي في القلوب بأسلوب السور المكية التي تواجه الكفار المشركين ابتداء.
وتخاطبهم بهذا التصور خطاب المبتدئ في مواجهته.
ثم هي تستخدم المؤثرات الكونية والنفسية كما تستعرض مصائر الغابرين من المكذبين قبلهم؛ وتعرض عليهم مشاهد القيامة لإثبات البعث، وتوكيده توكيداً شديداً، يدل على أن المخاطبين به من المنكرين الجاحدين.
فأما الفقرات الأخيرة فهي تخاطب الذين آمنوا بما يشبه خطابهم في السور المدنية، لحثهم على الإنفاق، وتحذرهم فتنة الأموال والأولاد.
وهي الدعوة التي تكررت نظائرها في العهد المدني بسبب مقتضيات الحياة الإسلامية الناشئة فيها.
كما أن فيها ما قد يكون تعزية عن مصاب أو تكاليف وقعت على عاتق المؤمنين، ورد الأمر فيها إلى قدر الله، وتثبيت هذا التصور.
وهو ما يتكرر في السور المدنية وبخاصة بعد الأمر بالجهاد وما ينشأ عنه من تضحيات.
ولقد وردت روايات أن السورة مكية، ووردت روايات أخرى أنها مدنية مع ترجيحها.
وكدت أميل إلى اعتبارها مكية تأثراً بأسلوب الفقرات الأولى فيها وجوها.
ولكني أبقيت اعتبارها مدنية مع الرأي الراجح فيها لأنه ليس ما يمنع أن تكون الفقرات الأولى فيها خطاباً للكفار بعد الهجرة سواء كانوا كفار مكة أم كفار القريبين من المدينة.
كما أنه ليس ما يمنع أن يستهدف القرآن المدني في بعض الأحيان جلاء أسس العقيدة، وإيضاح التصور الإسلامي، بهذا الأسلوب الغالب على أسلوب القرآن المكي.
والله أعلم.
والمقطع الأول في السورة يستهدف بناء التصور الإيماني الكوني، وعرض حقيقة الصلة بين الخالق سبحانه وهذا الكون الذي خلقه.
وتقرير حقيقة بعض صفات الله وأسمائه الحسنى وأثرها في الكون وفي الحياة الإنسانية: {يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير خلق السماوات والأرض بالحق وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير يعلم ما في السماوات والأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون والله عليم بذات الصدور}.
وهذا التصور الكوني الإيماني هو أدق وأوسع تصور عرفه المؤمنون في تاريخ العقيدة.
ولقد جاءت الرسالات الإلهية كلها بوحدانية الله، وإنشائه لهذا الوجود ولكل مخلوق، ورعايته لكل كائن في الوجود.
لا نشك في هذا لأن القرآن يحكيه عن الرسل وعن الرسالات كلها.
ولا عبرة بما نجده في الكتب المفتراة والمحرفة؛ أو فيما يكتبه عن الديانات المقارنة أناس لا يؤمنون بالقرآن كله أو بعضه.
إنما جاء الانحراف عن العقيدة الإيمانية من أتباعها، فبدا أنها لم تأت بالتوحيد الخالص، أو لم تأت بهيمنه الله واتصاله بكل كائن.
فهذا من التحريف الطارئ لا من أصل الديانة.
فدين الله واحد منذ أولى الرسالات إلى خاتمة الرسالات.
ويستحيل أن ينزل الله ديناً يخالف هذه القواعد، كما يزعم الزاعمون بناء على ما يجدونه في كتب مفتراة أو محرفة باسم الدين! ولكن تقرير هذه الحقيقة لا ينافي أن التصور الإسلامي عن الذات الإلهية، وصفاتها العلوية، وآثار هذه الصفات في الكون وفي الحياة الإنسانية.
أن هذا التصور أوسع وأدق وأكمل من كل تصور سابق في الديانات الإلهية.
وهذا متفق مع طبيعة الرسالة ومهمتها الأخيرة.
ومع الرشد البشري الذي جاءت هذه الرسالة لتخاطبه وتوجهه؛ وتنشئ فيه هذا التصور الشامل الكامل بكل مقتضياته وفروعه وآثاره.
ومن شأن هذا التصور أن يدرك القلب البشري بمقدار ما يطيق حقيقة الألوهية وعظمتها، ويشعر بالقدرة الإلهية ويراها في آثارها المشهودة في الكون، ويحسها في ذوات الأنفس بآثارها المشهودة والمدركة؛ ويعيش في مجال هذه القدرة وبين آثارها التي لا تغيب عن الحس والعقل والإلهام.
ويراها محيطة بكل شيء، مهيمنة على كل شيء، مدبرة لكل شيء، حافظة لكل شيء، لا يند عنها شيء.
سواء في ذلك الكبير والصغير والجليل والحقير.
ومن شأنه كذلك أن يعيش القلب البشري في حساسية مرهفة، وتوفز دائم، وخشية وارتقاب، وطمع ورجاء؛ وأن يمضي في الحياة معلقاً في كل حركة وكل خالجة بالله، شاعراً بقدرته وهيمنته، شاعراً بعلمه ورقابته، شاعراً بقهره وجبروته، شاعراً برحمته وفضله، شاعراً بقربه منه في كل حال.
وأخيراً فإن من شأنه أن يحس بالوجود كله متجهاً إلى خالقه فيتجه معه، مسبحاً بحمد ربه فيشاركه تسبيحه، مدبراً بأمره وحكمته فيخضع لشريعته وقانونه.
ومن ثم فهو تصور إيماني كوني بهذا المعنى، وبمعان أخرى كثيرة تتجلى في المواضع المتعددة في القرآن التي تضمنت عرض جوانب من هذا التصور الإيماني الشامل الكامل المحيط الدقيق.
وأقرب مثل منها ما ورد في ختام سورة الحشر، في هذا الجزء.
{يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض له الملك وله الحمد}.
فكل ما في السماوات والأرض متوجه إلى ربه، مسبح بحمده؛ وقلب هذا الوجود مؤمن، وروح كل شيء في هذا الوجود مؤمنة، والله مالك كل شيء.
وكل شيء شاعر بهذه الحقيقة.
والله محمود بذاته ممجّد من مخلوقاته.
فإذا وقف الإنسان وحده في خضم هذا الوجود الكبير كافر القلب جامد الروح، متمرداً عاصياً، لا يسبح لله، ولا يتجه إلى مولاه، فإنه يكون شاذاً بارز الشذوذ، كما يكون في موقف المنبوذ من كل ما في الوجود.
{وهو على كل شيء قدير}.
فهي القدرة المطلقة، التي لا تتقيد بقيد.
وهي حقيقة يطبعها القرآن في القلب المؤمن فيعرفها ويتأثر بمدلولها، ويعلم أنه حين يركن إلى ربه فإنما يركن إلى قدرة تفعل ما تشاء، وتحقق ما تريد.
بلا حدود ولا قيود.
وهذا التصور لقدرة الله وتسبيح كل شيء له، وتوجه الوجود إليه بالحمد.
هو طرف من ذلك التصور الإيماني الكبير.
واللمسة الثانية في صميم القلب الإنساني، الذي يقف في خضم الوجود المؤمن المسبح بحمد الله.
مؤمناً تارة وكافراً تارة.
وهو وحده الذي يقف هذا الموقف الفريد.
{هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن}.
فعن إرادة الله وعن قدرته صدر هذا الإنسان؛ وأُودع إمكان الاتجاه إلى الكفر وإمكان الاتجاه إلى الإيمان؛ وتميز بهذا الاستعداد المزدوج من بين خلق الله؛ ونيطت به أمانة الإيمان بحكم هذا الاستعداد.
وهي أمانة ضخمة وتبعة هائلة.
ولكن الله كرم هذا المخلوق فأودعه القدرة على التمييز والقدرة على الاختيار؛ وأمده بعد ذلك بالميزان الذي يزن به عمله ويقيس به اتجاهه.
وهو الدين الذي نزله على رسل منه.
فأعانه بهذا كله على حمل هذه الأمانة.
ولم يظلمه شيئاً.
{والله بما تعملون بصير}.
فهو رقيب على هذا الإنسان فيما يعمل، بصير بحقيقة نيته واتجاهه، فليعمل إذن وليحذر هذا الرقيب البصير.
وهذا التصور لحقيقة الإنسان وموقفه هو طرف من التصور الإسلامي الواضح المستقيم لموقف الإنسان في هذا الوجود، واستعداداته وتبعاته أمام خالق الوجود.
واللمسة الثالثة تشير إلى الحق الأصيل الكامن في طبيعة الوجود، الذي تقوم به السماوات والأرض، كما تشير إلى صنعة الله المبدعة في كيان المخلوق الإنساني.
وتقرر رجعة الجميع إليه في نهاية المطاف: {خلق السماوات والأرض بالحق وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير}.
وصدر هذا النص: {خلق السماوات والأرض بالحق}.
يقر في شعور المؤمن أن الحق أصيل في كيان هذا الكون، ليس عارضاً وليس نافلة؛ فبناء الكون قام على هذا الأساس.
والذي يقرر هذه الحقيقة هو الله الذي خلق السماوات والأرض، والذي يعلم على أي أساس قامتا.
واستقرار هذه الحقيقة في الحس يمنحه الطمأنينة والثقة في الحق الذي يقوم عليه دينه، ويقوم عليه الوجود من حوله؛ فهو لابد ظاهر، ولابد باق، ولابد مستقر في النهاية بعد زبد الباطل! والحقيقة الثانية: {وصوركم فأحسن صوركم}.
تشعر الإنسان بكرامته على الله، وبفضل الله عليه في تحسين صورته: صورته الخلقية وصورته الشعورية.
فالإنسان هو أكمل الأحياء في الأرض من ناحية تكوينه الجثماني؛ كما أنه أرقاها من ناحية تكوينه الشعوري واستعداداته الروحية ذات الأسرار العجيبة.
ومن ثم وكلت إليه خلافة الأرض، وأقيم في هذا الملك العريض بالقياس إليه! ونظرة فاحصة إلى الهندسة العامة لتركيب الإنسان، وإلى أي جهاز من أجهزته، تثبت تلك الحقيقة وتجسمها: {وصوركم فأحسن صوركم}.
وهي هندسة يجتمع فيها الجمال إلى الكمال.
ويتفاوت الجمال بين شكل وشكل.
ولكن التصميم في ذاته جميل وكامل الصنعة، وواف بكل الوظائف والخصائص التي يتفوق بها الإنسان في الأرض على سائر الأحياء.
{وإليه المصير}.
مصير كل شيء وكل أمر وكل خلق.
مصير هذا الكون ومصير هذا الإنسان.
فمن إرادته انبثق، وإليه سبحانه يعود.
ومنه المنشأ وإليه المصير.
وهو الأول والآخر.
المحيط بكل شيء من طرفيه: مبدئه ونهايته.
وهو سبحانه غير محدود!واللمسة الرابعة في هذا المقطع هي تصوير العلم الإلهي المحيط بكل شيء، المطلع على سر الإنسان وعلانيته، وعلى ما هو أخفى من السر، من ذوات الصدور الملازمه للصدور: {يعلم ما في السماوات والأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون والله عليم بذات الصدور}.
واستقرار هذه الحقيقة في القلب المؤمن يفيده المعرفة بربه، فيعرفه بحقيقته.
ويمنحه جانباً من التصور الإيماني الكوني.
ويؤثر في مشاعره واتجاهاته؛ فيحيا حياة الشاعر بأنه مكشوف كله لعين الله.
فليس له سر يخفى عليه، وليس له نية غائرة في الضمير لا يراها وهو العليم بذات الصدور.
وإن آيات ثلاثاً كهذه لكافية وحدها ليعيش بها الإنسان مدركاً لحقيقة وجوده.
ووجود الكون كله، وصلته بخالقه، وأدبه مع ربه، وخشيته وتقواه، في كل حركة وكل اتجاه.
والمقطع الثاني في السورة يذكر بمصير الغابرين من المكذبين بالرسل والبينات، المعترضين على بشرية الرسل.
كما كان المشركون يكذبون ويعترضون على بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم ويكفرون بما جاءهم به من البينات: {ألم يأتكم نبأ الذين كفروا من قبل فذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غني حميد}.
والخطاب هنا للمشركين غالباً وهو تذكير لهم بعاقبة المكذبين وتحذير لهم من مثل هذه العاقبة.
والاستفهام قد يكون لإنكار حالهم بعد ما جاءهم من نبأ الذين كفروا من قبل فذاقوا وبال أمرهم.
وقد يكون للفت أنظارهم إلى هذا النبأ الذي يقصه عليهم.
وهم كانوا يعرفون ويتناقلون أنباء بعض الهلكى من الغابرين.
كعاد وثمود وقرى لوط.
وهم يمرون عليها في شبه الجزيرة، في رحلاتهم للشمال والجنوب.
ويضيف القرآن إلى المعروف من مآلهم في الدنيا ما ينتظرهم هنالك في الآخرة: {ولهم عذاب أليم}.
ثم يكشف عن السبب الذي استحقوا به ما نالهم وما ينتظرهم: {ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا}.
وهو الاعتراض ذاته الذي يعترضه المشركون على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو اعتراض فج ناشئ عن الجهل بطبيعة الرسالة، وكونها منهجاً إلهياً للبشر، فلابد أن تتمثل واقعياً في بشر، يحيا بها، ويكون بشخصه ترجماناً لها؛ فيصوغ الآخرون أنفسهم على مثاله بقدر ما يستطيعون.
ولا ينعزل هو عنهم بجنسه، فيتعذر أن يجدوا للرسالة صورة واقعية يحاولون تحقيقها في ذوات أنفسهم، وفي حياتهم ومعاشهم.
وناشئ كذلك من الجهل بطبيعة الإنسان ذاته ورفعة حقيقته بحيث يتلقى رسالة السماء ويبلغها، بدون حاجة إلى أن يحملها إلى الناس ملك كما كانوا يقترحون.
ففي الإنسان تلك النفخة من روح الله! وهي تهيئة لاستقبال الرسالة من الله، وأدائها كاملة كما تلقاها من الملأ الأعلى.
وهي كرامة للجنس البشري كله لا يرفضها إلا جاهل بقدر هذا الإنسان عند الله، حين يحقق في ذاته حقيقة النفخة من روح الله! وناشئ في النهاية من التعنت والاستكبار الكاذب عن اتِّباع رسول من البشر.
كأن في هذا غضاً من قيمة هؤلاء الجهال المتكبرين! فجائز في عرفهم أن يتبعوا رسولاً من خلق آخر غير جنسهم بلا غضاضة.
أما أن يتبعوا واحداً منهم فهي في نظرهم حطة وقلة قيمة! ومن ثم كفروا وتولوا معرضين عن الرسل وما معهم من البينات، ووقفت في صدورهم هذه الكبرياء وذلك الجهل.
فاختاروا لأنفسهم الشرك والكفر.
{واستغنى الله والله غني حميد}.
استغنى الله عنهم وعن إيمانهم وعن طاعتهم.
وما هو سبحانه بمحتاج إلى شيء منهم ولا من غيرهم، ولا بمحتاج أصلاً: {والله غني حميد}.
فهذا نبأ الذين كفروا من قبل فذاقوا وبال أمرهم.
وهذا سبب ما ذاقوا وما ينتظرهم.
فكيف يكذب بعد هذا النبأ مكذبون جدد؟ أليلقوا مصيراً كهذا المصير؟ والمقطع الثالث بقية للمقطع الثاني يحكي تكذيب الذين كفروا بالبعث وظاهر أن الذين كفروا هم المشركون الذين كان الرسول صلى الله عليه وسلم يواجههم بالدعوة وفيه توجيه للرسول أن يؤكد لهم أمر البعث توكيداً وثيقاً.
وتصوير لمشهد القيامة ومصير المكذبين والمصدقين فيه؛ ودعوة لهم إلى الإيمان والطاعة ورد كل شيء لله فيما يقع لهم في الحياة.
{زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا والله بما تعملون خبير يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيهآ أبداً ذلك الفوز العظيم والذين كفروا وكذبوا بآياتنآ أولئك أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير مآ أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين.
الله لا إله إلا هو وعلى الله فليتوكل المؤمنون}.
ومنذ البدء يسمي مقالة الذين كفروا عن عدم البعث زعماً، فيقضي بكذبه من أول لفظ في حكايته.
ثم يوجه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى توكيد أمر البعث بأوثق توكيد، وهو أن يحلف بربه.
وليس بعد قسم الرسول بربه توكيد، {قل بلى وربي لتبعثن}.
{ثم لتنبئون بما عملتم}.
فليس شيء منه بمتروك.
والله أعلم منهم بعملهم حتى لينبئهم به يوم القيامة! {وذلك على الله يسير}.
فهو يعلم ما في السماوات والأرض ويعلم السر والعلن وهو عليم بذات الصدور.
وهو على كل شيء قدير.
كما جاء في مطلع السورة تمهيداً لهذا التقرير.
وفي ظل هذا التوكيد الوثيق يدعوهم إلى الإيمان بالله ورسوله والنور الذي أنزله مع رسوله.
وهو هذا القرآن.
وهو هذا الدين الذي يبشر به القرآن.
وهو نور في حقيقته بما أنه من عند الله.
والله نور السماوات والأرض.
وهو نور في آثاره إذ ينير القلب فيشرق بذاته ويبصر الحقيقة الكامنة فيه هو ذاته.
ويعقب على دعوتهم إلى الإيمان، بما يشعرهم أنهم مكشوفون لعين الله لا يخفى عليه منهم شيء: {والله بما تعملون خبير}.
وبعد هذه الدعوة يعود إلى استكمال مشهد البعث الذي أكده لهم أوثق توكيد: {يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن}.
فأما أنه يوم الجمع فلأن جميع الخلائق في جميع الأجيال تبعث فيه، كما يحضره الملائكة وعددهم لا يعلمه إلا الله.
ولكن قد يقربه إلى التصور ما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم-: «إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون.
أطت السماء وحق لها أن تيط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وفيه ملك واضع جبهته لله تعالى ساجداً.
والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً، ولما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى.
لوددت أني شجرة تعضد».
والسماء التي ليس فيها موضع أربع أصابع إلا وفيه ملك.
هي هذا الاتساع الهائل الذي لا يعرف له البشر حدوداً.
والذي تبدو فيه شمس كشمسنا ذرة كالهباءة الطائرة في الفضاء! فهل هذا يقرب شيئاً للتصور البشري عن عدد الملائكة؟ إنهم من بين الجمع في يوم الجمع! وفي مشهد من هذا الجمع يكون التغابن! والتغابن مفاعلة من الغبن.
وهو تصوير لما يقع من فوز المؤمنين بالنعيم؛ وحرمان الكافرين من كل شيء منه ثم صيرورتهم إلى الجحيم.
فهما نصيبان متباعدان.
وكأنما كان هناك سباق للفوز بكل شيء، وليغبن كل فريق مسابقه! ففاز فيه المؤمنون وهزم فيه الكافرون! فهو تغابن بهذا المعنى المصور المتحرك! يفسره ما بعده: {ومن يؤمن بالله ويعمل صالحاً يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيهآ أبداً ذلك الفوز العظيم والذين كفروا وكذبوا بآياتنآ أولئك أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير}.
وقبل أن يكمل نداءه إليهم بالإيمان يقرر قاعدة من قواعد التصور الإيماني في القدر، وفي أثر الإيمان بالله في هداية القلب: {ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم}.
ولعل مناسبة ذكر هذه الحقيقة هنا هي مجرد بيانها في صدد عرض حقيقة الإيمان الذي دعاهم إليه في هذا المقطع.
فهو الإيمان الذي يرد كل شيء إلى الله، ويعتقد أن كل ما يصيب من خير ومن شر فهو بإذن الله.
وهي حقيقة لا يكون إيمان بغيرها.
فهي أساس جميع المشاعر الإيمانية عند مواجهة الحياة بأحداثها خيرها وشرها.
كما يجوز أن تكون هناك مناسبة حاضرة في واقع الحال عند نزول هذه السورة.
أو هذه الآية من السورة، فيما كان يقع بين المؤمنين والمشركين من وقائع.
وعلى أية حال فهذا جانب ضخم من التصور الإيماني الذي ينشئه الإسلام في ضمير المؤمن.
فيحس يد الله في كل حدث، ويرى يد الله في كل حركة، ويطمئن قلبه لما يصيبه من الضراء ومن السراء.
يصبر للأولى ويشكر للثانية.
وقد يتسامى إلى آفاق فوق هذا، فيشكر في السراء وفي الضراء؛ إذ يرى في الضراء كما في السراء فضل الله ورحمته بالتنبيه أو بالتكفير أو بترجيح ميزان الحسنات، أو بالخير على كل حال.
وفي الحديث المتفق عليه: «عجباً للمؤمن! لا يقضي الله قضاء إلا كان خيراً له.
إن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له.
وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له.
وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن».
{ومن يؤمن بالله يهد قلبه}.
وقد فسرها بعض السلف بأنها الإيمان بقدر الله والتسليم له عند المصيبة.
وعن ابن عباس يعني يهدي قلبه هداية مطلقة.
ويفتحه على الحقيقة اللدنية المكنونة.
ويصله بأصل الأشياء والأحداث، فيرى هناك منشأها وغايتها.
ومن ثم يطمئن ويقر ويستريح.
ثم يعرف المعرفة الواصلة الكلية فيستغني عن الرؤية الجزئية المحفوفة بالخطأ والقصور.
ومن ثم يكون التعقيب عليها: {والله بكل شيء عليم}.
فهي هداية إلى شيء من علم الله، يمنحه لمن يهديه، حين يصح إيمانه فيستحق إزاحة الحجب، وكشف الأسرار.
بمقدار.
ويتابع دعوتهم إلى الإيمان فيدعوهم إلى طاعة الله وطاعة الرسول: {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين}.
وقد عرض عليهم من قبل مصير الذين تولوا.
وهنا يقرر لهم أن الرسول مبلغ.
فإذا بلغ فقد أدى الأمانة، ونهض بالواجب، وأقام الحجة.
وبقي ما ينتظرهم هم من المعصية والتوالي، مما ذكروا به منذ قليل.
ثم يختم هذا المقطع بتقرير حقيقة الوحدانية التي ينكرونها ويكذبونها، ويقرر شأن المؤمنين بالله في تعاملهم مع الله: {الله لا إله إلا هو وعلى الله فليتوكل المؤمنون}.
وحقيقة التوحيد هي أساس التصور الإيماني كله.
ومقتضاها أن يكون التوكل عليه وحده.
فهذا هو أثر التصور الإيماني في القلوب.
وبهذه الآية يدخل السياق في خطاب المؤمنين.
فهي وصلة بين ما مضى من السورة وما يجيء.
وفي النهاية يوجه الخطاب إلى المؤمنين يحذرهم فتنة الأزواج والأولاد والأموال، ويدعوهم إلى تقوى الله، والسمع والطاعة والإنفاق، كما يحذرهم شح الأنفس، ويعدهم على ذلك مضاعفة الرزق والمغفرة والفلاح، ويذكرهم في الختام بعلم الله للحاضر والغائب، وقدرته وغلبته، مع خبرته وحكمته: {يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم إنمآ أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيراً لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون إن تقرضوا الله قرضاً حسناً يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم}.
وقد ورد عن ابن عباس رضي الله عنه في الآية الأولى من هذا السياق وقد سأله عنها رجل فقال: فهؤلاء رجال أسلموا من مكة، فأرادوا أن يأتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم- فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم.
فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم رأوا الناس قد فقهوا في الدين، فهموا أن يعاقبوهم، فأنزل الله هذه الآية: {وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم}.
وهكذا رواه الترمذي بإسناد آخر وقال: حسن صحيح.
وهكذا قال عكرمة مولى ابن عباس.
ولكن النص القرآني أشمل من الحادث الجزئي وأبعد مدى وأطول أمداً.
فهذا التحذير من الأزواج والأولاد كالتحذير الذي في الآية التالية من الأموال والأولاد معاً: {إنما أموالكم وأولادكم فتنة}.
والتنبيه إلى أن يكون من الأزواج والأولاد من يكون عدواً.
إن هذا يشير إلى حقيقة عميقة في الحياة البشرية.
ويمس وشائج متشابكة دقيقة في التركيب العاطفي وفي ملابسات الحياة سواء.
فالأزواج والأولاد قد يكونون مشغلة وملهاة عن ذكر الله.
كما أنهم قد يكونون دافعاً للتقصير في تبعات الإيمان اتقاء للمتاعب التي تحيط بهم لو قام المؤمن بواجبه فلقي ما يلقاه المجاهد في سبيل الله! والمجاهد في سبيل الله يتعرض لخسارة الكثير، وتضحية الكثير.
كما يتعرض هو وأهله للعنت.
وقد يحتمل العنت في نفسه ولا يحتمله في زوجه وولده.
فيبخل ويجبن ليوفر لهم الأمن والقرار أو المتاع والمال! فيكونون عدواً له، لأنهم صدوه عن الخير، وعوقوه عن تحقيق غاية وجوده الإنساني العليا.
كما أنهم قد يقفون له في الطريق يمنعونه من النهوض بواجبه، اتقاء لما يصيبهم من جرائه، أو لأنهم قد يكونون في طريق غير طريقه، ويعجز هو عن المفاصلة بينه وبينهم والتجرد لله.
وهي كذلك صور من العداوة متفاوتة الدرجات.
وهذه وتلك مما يقع في حياة المؤمن في كل آن.
ومن ثم اقتضت هذه الحال المعقدة المتشابكة، التحذير من الله، لإثارة اليقظة في قلوب الذين آمنوا، والحذر من تسلل هذه المشاعر، وضغط هذه المؤثرات.
ثم كرر هذا التحذير في صورة أخرى من فتنة الأموال والأولاد.
وكلمة فتنة تحتمل معنيين: الأول أن الله يفتنكم بالأموال والأولاد بمعنى يختبركم، فانتبهوا لهذا، وحاذروا وكونوا أبداً يقظين لتنجحوا في الابتلاء، وتخلصوا وتتجردوا لله.
كما يفتن الصائغ الذهب بالنار ليخلصه من الشوائب! والثاني أن هذه الأموال والأولاد فتنة لكم توقعكم بفتنتها في المخالفة والمعصية، فاحذروا هذه الفتنة لا تجرفكم وتبعدكم عن الله.
وكلا المعنيين قريب من قريب.
وقد روى الإمام أحمد بإسناده عن عبد الله بن بريدة: سمعت أبي بريدة يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فجاء الحسن والحسين رضي الله عنهما عليهما قميصان أحمران، يمشيان ويعثران فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنبر فحملهما، فوضعهما بين يديه.
ثم قال: صدق الله ورسوله، إنما أموالكم وأولادكم فتنة.
نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران، فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما.
ورواه أهل السنة من حديث ابن واقد.
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذان ابنا بنته.
وإنه لأمر إذن خطير.
وخطر.
وإن التحذير والتنبيه فيه لضرورة يقدرها من خلق قلوب الناس، وأودعها هذه المشاعر، لتكفكف نفسها عن التمادي والإفراط، وهي تعلم أن هذه الوشائج الحبيبة قد تفعل بها ما يفعل العدو، وتؤدي بها إلى ما تؤدي إليه مكايد الأعداء!ومن ثم يلوح لها بما عند الله بعد التحذير من فتنة الأموال والأولاد، والعداوة المستسرة في بعض الأبناء والأزواج.
فهذه فتنة {والله عنده أجر عظيم}.
ويهتف للذين آمنوا بتقوى الله في حدود الطاقة والاستطاعة، بالسمع والطاعة: {فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا}.
وفي هذا القيد: {ما استطعتم} يتجلى لطف الله بعباده، وعلمه بمدى طاقتهم في تقواه وطاعته.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم-: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وما نهيتكم عنه فاجتنبوه».