مسجد (تقسيم) في مدينة اسطنبول بجمهورية تركيا.
أ.د.فؤاد البنا
سمي هذا المسجد بهذا الاسم لأنه يقع في ميدان تقسيم، وسمي ميدان تقسيم بهذا الاسم لأنه احتضن المبنى الذي كان يحتوي مقسم المياه في الحي كله أيام العثمانيين!
ولأن هذا المسجد يبرز قصة الصراع بين العلمانيين والإسلاميين على هوية تركيا، فسنورد نبذة مختصرة عن قصته؛ فقد كان مخطط بناء المسجد في هذا الميدان جاهزا منذ عام ١٩٥٢م، من قبل (جمعية بناء مسجد تقسيم ورعايته)، لكن العلمانيين ظلوا يستخدمون سلطانهم لمنع هذا الأمر تحت مبررات عديدة، وحينما وقع انقلاب الجنرال كنعان إيفرين سنة ١٩٨٠م على الحكومة المنتخبة تم إغلاق الجمعية وغلق ملف المسجد. وبعد أن خفّت وطأة الانقلاب عاد المعنيون لمتابعة الأمر في أروقة القانون، لكن مجلس الدولة أوقف المشروع عام ١٩٨٣م تحت مبرر أنه «لا يخدم المصلحة العامة»!
وظل مشروع المسجد حاضرا على جدول أعمال حكومتي تورجوت أوزال في الثمانينيات ونجم الدين أربكان في عام ١٩٩٦م لكن ممانعة العلمانيين ظلت قوية؛ ذلك أن ميدان تقسيم يمتلك رمزية كبيرة عندهم بسبب احتضانه لنصب الجمهورية العلمانية ولأنه يمثل مركز المدينة الحديثة التي يبشرون بها، بجانب أنه من أهم معاقلهم الانتخابية، ولأنه كذلك فقد أشعلوا منه موجة احتجاجات ضد حكومة حزب العدالة والتنمية سنة ٢٠١٣م.
ورغم أن أردوغان كان متحمسا لبناء المسجد منذ أن صار عمدة لمدينة اسطنبول عام ١٩٩٤م إلا أنه ظل يواجه الأمر بنفَس طويل وعبر الأطر القانونية حتى وافق مجلس الحفاظ على الآثار الثقافية على بناء المسجد في يناير ٢٠١٧م، أي بعد أكثر من ٢٧ سنة على وعد أردوغان ببناء المسجد وبعد ١٥ عاما على وصول الإسلاميين إلى السلطة!
وفي الشهر التالي وضعت حجر الأساس لهذا المسجد الكبير؛ حيث بدأت أعمال البناء في ١٧ فبراير ٢٠١٧م، واستمرت أعمال البناء والتشييد لمدة أربع سنوات، وعندما أصبح المسجد جاهزا لارتياد المصلين، تم افتتاحه رسميا في حفل تأريخي بعد صلاة يوم الجمعة ٢٨ مايو ٢٠٢١م، بحضور الآلاف من الرسميين والشعبيين يتقدمهم الرئيس رجب طيب أردوغان!
ويمكن اعتبار مسجد تقسيم من المساجد المتوسطة الحجم في اسطنبول؛ فقد بني على مساحة تقارب ٢٥٠٠م٢، ويتكون من ٦ طوابق: ٣ طوابق تحت الأرض خصصت كمواقف تستوعب قرابة ١٧٠ سيارة، وثلاثة طوابق فوق الأرض تضم قاعات للصلاة تستوعب حوالي ٣٠٠٠ مصل من الرجال والنساء اللاتي خصص لهن طابق منفصل، وقاعة ضخمة للمؤتمرات والمعارض، وقاعة خاصة بالأوقاف والجمعيات الخيرية، ومرآبا للسيارات تحت الأرض، بجانب المكاتب الإدارية ودورات المياه وسكن الإمام والخطيب والمؤذن.
يمتلك المسجد تصميما جذابا أنجزه معماريان تركيان هما شفيق بيركيا وسليم دالامان اللذان صمما مسجد القصر الرئاسي في أنقرة، وأول المكونات الجمالية للمسجد هي تصميمه الجذاب الذي امتزجت فيه الأصالة بالمعاصرة، وثانيتها قوامه المرتفع الذي يبلغ ٣٠م موازياً ارتفاع الكنيستين اللتين تسكنان في جواره، وثالثتها مئذنتاه القلميتان الباسقتان في سماء اسطنبول والتي يبلغ ارتفاعها ٦١م، وكأنهما تجسدان الانتصار على التحديات المفروضة والتبعية المرفوضة، ورابعتها قبته الباذخة الجمال والتي يبلغ قطرها ٢٨م وارتفاعها ٢٩م، وكذا وصيفاتها من القباب المتوسطة والصغيرة بقواعدها الأنيقة التي تحملها والتي تضافرت مع بعضها لتمنح المسجد جمالا أخّاذا، وخامستها الزينات المتميزة في الجدران الداخلية والخارجية من خلال النقوش والزخارف الإسلامية المبهرة والخطوط العربية المتقنة، مع التوزيع الذكي للألوان بطريقة هادئة وجذابة في ذات الوقت، وكذا الثريات الرائعة التي تتدلى من السقف المزدان بالجمال المذهل!