سورة القيامة مع تفسيرها بالكامل

سورة القيامة مع تفسيرها بالكامل



سورة القيامة مع تفسيرها بالكامل

﴿ {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15) لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآَخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25) كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)} ﴾

۞۞۞۞۞۞۞

هذه السورة الصغيرة تحشد على القلب البشري من الحقائق والمؤثرات والصور والمشاهد، والإيقاعات واللمسات، ما لا قبل له بمواجهته ولا التفلت منه.

تحشدها بقوة، في أسلوب خاص، يجعل لها طابعاً قرآنياً مميزاً، سواء في أسلوب الأداء التعبيري، أو أسلوب الأداء الموسيقي، حيث يجتمع هذا وذاك على إيقاع تأثير شعوري قوي، تصعب مواجهته ويصعب التفلت منه أيضاً! إنها تبدأ في الآيتين الأوليين منها بإيقاع عن القيامة، وإيقاع عن النفس: {لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة}.

ثم يستطرد الحديث فيها متعلقاً بالنفس ومتعلقاً بالقيامة، من المطلع إلى الختام، تزاوج بين النفس وبين القيامة حتى تنتهي.

وكأن هذا المطلع إشارة إلى موضوع السورة.

أو كأنه اللازمة الإيقاعية التي ترتد إليها كل إيقاعات السورة، بطريقة دقيقة جميلة.

من تلك الحقائق الكبيرة التي تحشدها هذه السورة في مواجهة القلب البشري، وتضرب بها عليه حصاراً لا مهرب منه.

حقيقة الموت القاسية الرهيبة التي تواجه كل حي، فلا يملك لها رداً، ولا يملك لها أحد ممن حوله دفعاً.

وهي تتكرر في كل لحظة، ويواجهها الكبار والصغار، والأغنياء والفقراء، والأقوياء والضعاف، ويقف الجميع منها موقفاً واحداً.

لا حيلة.

ولا وسيلة.

ولا قوة.

ولا شفاعة.

ولا دفع.

ولا تأجيل.

مما يوحي بأنها قادمة من جهة عليا لا يملك البشر معها شيئاً.

ولا مفر من الاستسلام لها، والاستسلام لإرادة تلك الجهة العليا.

وهذا هو الإيقاع الذي تمس به السورة القلوب وهي تقول: {كلا إذا بلغت التراقي وقيل من راق وظن أنه الفراق والتفَّت الساق بالساق إلى ربك يومئذ المساق}.

ومن تلك الحقائق الكبيرة التي تعرضها السورة، حقيقة النشأة الأولى، ودلالتها على صدق الخبر بالنشأة الأخرى، وعلى أن هناك تدبيراً في خلق هذا الإنسان وتقديراً.

وهي حقيقة يكشف الله للناس عن دقة أدوارها وتتابعها في صنعة مبدعة، لا يقدر عليها إلا الله، ولا يدعها أحد ممن يكذبون بالآخرة ويتمارون فيها.

فهي قاطعة في أن هناك إلهاً واحداً يدبر هذا الأمر ويقدره؛ كما أنها بينة لا ترد على يسر النشأة الآخرة، وإيحاء قوي بضرورة النشأة الآخرة، تمشياً مع التقدير والتدبير الذي لا يترك هذا الإنسان سدى، ولا يدع حياته وعمله بلا وزن ولا حساب.

وهذا هو الإيقاع الذي تمس السورة به القلوب وهي تقول في أولها: {أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه} ثم تقول في آخرها: {أيحسب الإنسان أن يترك سدى ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى}.

ومن المشاهد المؤثرة التي تحشدها السورة، وتواجه بها القلب البشري مواجهة قوية.

مشهد يوم القيامة وما يجري فيه من انقلابات كونية، ومن اضطرابات نفسية، ومن حيرة في مواجهة الأحداث الغالبة حيث يتجلى الهول في صميم الكون، وفي أغوار النفس وهي تروغ من هنا ومن هناك كالفأر في المصيدة! وذلك رداً على تساؤل الإنسان عن يوم القيامة في شك واستبعاد ليومها المغيب، واستهانة بها ولجاج في الفجور.

فيجيء الرد في إيقاعات سريعة، ومشاهد سريعة، وومضات سريعة: {بل يريد الإنسان ليفجر أمامه يسأل أيان يوم القيامة فإذا برق البصر وخسف القمر وجمع الشمس والقمر يقول الإنسان يومئذ أين المفر كلا لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر بل الإنسان على نفسه بصيره ولو ألقى معاذيره}.

ومن هذه المشاهد مشهد المؤمنين المطمئنين إلى ربهم، المتطلعين إلى وجهه الكريم في ذلك الهول.

ومشهد الآخرين المقطوعين الصلة بالله، وبالرجاء فيه، المتوقعين عاقبة ما أسلفوا من كفر ومعصية وتكذيب.

وهو مشهد يعرض في قوة وحيوية كأنه حاضر لحظة قراءة القرآن.

وهو يعرض رداً على حب الناس للعاجلة، وإهمالهم للآخرة.

وفي الآخرة يكون هذا الذي يكون: {كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة وجوه يؤمئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ووجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة}.

وفي ثنايا السورة وحقائقها تلك ومشاهدها تعترض أربع آيات تحتوي توجيهاً خاصاً للرسول صلى الله عليه وسلم وتعليماً له في شأن تلقي هذا القرآن.

ويبدو أن هذا التعليم جاء بمناسبة حاضرة في السورة ذاتها.

إذ كان الرسول صلى الله عليه وسلم يخاف أن ينسى شيئاً مما يوحى إليه، فكان حرصه على التحرز من النسيان يدفعه إلى استذكار الوحي فقرة فقرة في أثناء تلقيه؛ وتحريك لسانه به ليستوثق من حفظه.

فجاءه هذا التعليم: {لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه}.

جاءه هذا التعليم ليطمئنه إلى أن أمر هذا الوحي، وحفظ هذا القرآن، وجمعه، وبيان مقاصده.

كل أولئك موكول إلى صاحبه.

ودوره هو، هو التلقي والبلاغ.

فليطمئن بالاً، وليتلق الوحي كاملاً، فيجده في صدره منقوشاً ثابتاً.

وهكذا كان.

فأما هذا التعليم فقد ثبت في موضعه حيث نزل.

أليس من قول الله؟ وقول الله ثابت في أي غرض كان؟ ولأي أمر أراد؟ وهذه كلمة من كلماته تثبت في صلب الكتاب شأنها شأن بقية الكتاب.

ودلالة إثبات هذه الآيات في موضعها هذا من السورة دلالة عميقة موحية على حقيقة لطيفة في شأن كل كلمات الله في أي اتجاه.

وفي شأن هذا القرآن وتضمنه لكل كلمات الله التي أوحى بها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لم يُخرم منها حرف، ولم تند منها عبارة.

فهو الحق والصدق والتحرج والوقار! وهكذا يشعر القلب وهو يواجه هذه السورة أنه محاصر لا يهرب.

مأخوذ بعمله لا يفلت.

لا ملجأ له من الله ولا عاصم.

مقدرة نشأته وخطواته بعلم الله وتدبيره، في النشأة الأولى وفي النشأة الآخرة سواء، بينما هو يلهو ويلعب ويغتر ويتبطر: {فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى ثم ذهب إلى أهله يتمطى}.

وفي مواجهة تلك الحشود من الحقائق والمؤثرات واللمسات والإيحاءات يسمع التهديد الملفوف: {أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى} فيكون له وقعة ومعناه! وهكذا تعالج السورة عناد هذا القلب وإعراضه وإصراره ولهوه.

وتشعره بالجد الصارم الحازم في هذا الشأن، شأن القيامة، وشأن النفس، وشأن الحياة المقدرة بحساب دقيق.

ثم شأن هذا القرآن الذي لا يخرم منه حرف، لأنه من كلام العظيم الجليل، الذي تتجاوب جنبات الوجود بكلماته، وتثبت في سجل الكون الثابت، وفي صلب هذا الكتاب الكريم.

وقد عرضنا نحن لحقائق السورة ومشاهدها فرادى لمجرد البيان.

وهي في نسق السورة شيء آخر.

إذ أن تتابعها في السياق، والمزاوجة بينها هنا وهناك، ولمسة القلب بجانب من الحقيقة مرة، ثم العودة إليه بالجانب الآخر بعد فترة.

كل ذلك من خصائص الأسلوب القرآني في مخاطبة القلب البشري؛ مما لا يبلغ إليه أسلوب آخر، ولا طريقة أخرى.

فلنأخذ في مواجهة السورة كما هي في سياقها القرآني الخاص: {لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه بلى قادرين على أن نسوي بنانه بل يريد الإنسان ليفجر أمامه يسأل أيان يوم القيامة فإذا برق البصر وخسف القمر وجمع الشمس والقمر يقول الإنسان يومئذ أين المفر كلا لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره}.

هذا التلويح بالقسم مع العدول عنه أوقع في الحس من القسم المباشر؛ وهذا الوقع هو المقصود من العبارة، وهو يتم أحسن تمام بهذا الأسلوب الخاص، الذي يتكرر في مواضع مختلفة من القرآن.

ثم تبرز من ورائه حقيقة القيامة وحقيقة النفس اللوامة.

وحقيقة القيامة سيرد عنها الكثير في مواضعه في السورة.

فأما النفس اللوامة ففي التفسيرات المأثورة أقوال متنوعة عنها.

فعن الحسن البصري: إن المؤمن والله ما تراه إلا يلوم نفسه: ما أردت بكلمتي؟ ما أردت بأكلتي؟ ما أردت بحديث نفسي؟ وإن الفاجر يمضي قدماً ما يعاتب نفسه.

وعن الحسن: ليس أحد من أهل السماوات والأرضين إلا يلوم نفسه يوم القيامة.

وعن عكرمة: تلوم على الخير والشر: لو فعلت كذا وكذا! كذلك عن سعيد بن جبير.

وعن ابن عباس: هي النفس اللؤوم.

وعنه أيضاً: اللوامة المذمومة.

وعن مجاهد: تندم على ما فات وتلوم عليه.

وعن قتادة: الفاجرة.

وقال جرير: وكل هذه الأقوال متقاربة المعنى، والأشبه بظاهر التنزيل أنها التي تلوم صاحبها على الخير والشر، وتندم على ما فات.

ونحن نختار في معنى {النفس اللوامة} قول الحسن البصري: إن المؤمن والله ما تراه إلا يلوم نفسه: ما أردت بكلمتي؟ ما أردت بأكلتي؟ ما أردت بحديث نفسي؟ وإن الفاجرة يمضي قدماً ما يعاتب نفسه.

فهذه النفس اللوامة المتيقظة التقية الخائفة المتوجسة التي تحاسب نفسها، وتتلفت حولها، وتتبين حقيقة هواها، وتحذر خداع ذاتها هي النفس الكريمة على الله، حتى ليذكرها مع القيامة.

ثم هي الصورة المقابلة للنفس الفاجرة.

نفس الإنسان الذي يريد أن يفجر ويمضي قدماً في الفجور، والذي يكذب ويتولى ويذهب إلى أهله يتمطى دون حساب لنفسه ودون تلوم ولا تحرج ولا مبالاة! {لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة}.

على وقوع هذه القيامة، ولكنه لما عدل عن القسم، عدل عن ذكر المقسم به، وجاء به في صورة أخرى كأنها ابتداء لحديث بعد التنبيه إليه بهذا المطلع الموقظ: {أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه بلى قادرين على أن نسوي بنانه}.

وقد كانت المشكلة الشعورية عند المشركين هي صعوبة تصورهم لجمع العظام البالية، الذاهبة في التراب، المتفرقة في الثرى، لإعادة بعث الإنسان حياً! ولعلها لا تزال كذلك في بعض النفوس إلى يومنا هذا! والقرآن يرد على هذا الحسبان بعدم جمع العظام مؤكداً وقوعه: {بلى قادرين على أن نسوي بنانه}.

والبنان أطراف الأصابع؛ والنص يؤكد عملية جمع العظام، بما هو أرقى من مجرد جمعها، وهو تسوية البنان، وتركيبه في موضعه كما كان! وهي كناية عن إعادة التكوين الإنساني بأدق ما فيه، وإكماله بحيث لا تضيع منه بنان، ولا تختل عن مكانها، بل تسوى تسوية، لا ينقص معها عضو ولا شكل هذا العضو، مهما صغر ودق! ويكتفي هنا بهذا التقرير المؤكد، وسيجيء في نهاية السورة دليل آخر من واقع النشأة الأولى.

إنما يخلص هنا إلى الكشف عن العلة النفسية في هذا الحسبان، وتوقع عدم جمع العظام.

إن هذا الإنسان يريد أن يفجر، ويمضي قدماً في الفجور، ولا يريد أن يصده شيء عن فجوره، ولا أن يكون هناك حساب عليه وعقاب.

ومن ثم فهو يستبعد وقوع البعث، ويستبعد مجيء يوم القيامة: {بل يريد الإنسان ليفجر أمامه يسأل أيان يوم القيامة}.

والسؤال بأيان هذا اللفظ المديد الجرس يوحي باستبعاده لهذا اليوم.

وذلك تمشياً مع رغبته في أن يفجر ويمضي في فجوره، لا يصده شبح البعث وشبح الآخرة.

والآخرة لجام للنفس الراغبة في الشر، ومصد للقلب المحب للفجور.

فهو يحاول إزالة هذا المصد، وإزاحة هذا اللجام، لينطلق في الشر والفجور بلا حساب ليوم الحساب.

ومن ثم كان الجواب على التهكم بيوم القيامة واستبعاد موعدها، سريعاً خاطفاً حاسماً، ليس فيه تريث ولا إبطاء حتى في إيقاع النظم، وجرس الألفاظ.

وكان مشهداً من مشاهد القيامة تشترك فيه الحواس والمشاعر الإنسانية، والمشاهد الكونية: {فإذا برق البصر وخسف القمر وجمع الشمس والقمر يقول الإنسان يومئذ أين المفر}.

فالبصر يخطف ويتقلب سريعاً سريعاً تقلب البرق وخطفه.

والقمر يخسف ويطمس نوره.

والشمس تقترن بالقمر بعد افتراق.

ويختل نظامهما الفلكي المعهود، حيث ينفرط ذلك النظام الكوني الدقيق.

وفي وسط هذا الذعر والانقلاب، يتساءل الإنسان المرعوب: {أين المفر} ويبدو في سؤاله الارتياع والفزع، وكأنما ينظر في كل اتجاه، فإذا هو مسدود دونه، مأخوذ عليه! ولا ملجأ ولا وقاية، ولا مفر من قهر الله وأخذه، والرجعة إليه، والمستقر عنده؛ ولا مستقر غيره: {كلا لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر}.

وما كان يرغب فيه الإنسان من المضي في الفجور بلا حساب ولا جزاء، لن يكون يومئذ، بل سيكون كل ما كسبه محسوباً، وسيذكر به إن كان نسيه، ويؤخذ به بعد أن يذكره ويراه حاضراً: {ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر}.

بما قدمه من عمل قبل وفاته، وبما أخره وراءه من آثار هذا العمل خيراً كان أم شراً.

فمن الأعمال ما يخلف وراءه آثاراً تضاف لصاحبها في ختام الحساب! ومهما اعتذر الإنسان بشتى المعاذير عما وقع منه، فلن يقبل منها عذر، لأن نفسه موكولة إليه، وهو موكل بها، وعليه أن يهديها إلى الخير ويقودها.

فإذا انتهى بها إلى الشر فهو مكلف بها وحجة عليها: {بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره}.

ومما يلاحظ أن كل شيء سريع قصير: الفقر.

والفواصل.

والإيقاع الموسيقي.

والمشاهد الخاطفة.

وكذلك عملية الحساب: {ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر} هكذا في سرعة وإجمال.

ذلك أنه رد على استطالة الأمد والاستخفاف بيوم الحساب! ثم تجيء الآيات الأربع الخاصة بتوجيه الرسول صلى الله عليه وسلم في شأن الوحي وتلقي هذا القرآن: {لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه}.

وبالإضافة إلى ما قلناه في مقدمة السورة عن هذه الآيات، فإن الإيحاء الذي تتركه في النفس هو تكفل الله المطلق بشأن هذا القرآن: وحياً وحفظاً وجمعاً وبياناً؛ وإسناده إليه سبحانه وتعالى بكليته.

ليس للرسول صلى الله عليه وسلم- من أمره إلا حمله وتبليغه.

ثم لهفة الرسول صلى الله عليه وسلم وشدة حرصه على استيعاب ما يوحى إليه؛ وأخذه مأخذ الجد الخالص، وخشيته أن ينسى منه عبارة أو كلمة، مما كان يدعوه إلى متابعة جبريل عليه السلام في التلاوة آية آية وكلمة كلمة يستوثق منها أن شيئاً لم يفته، ويثبت من حفظه له فيما بعد! وتسجيل هذا الحادث في القرآن المتلو له قيمته في تعميق هذه الإيحاءات التي ذكرناها هنا وفي مقدمة السورة بهذا الخصوص.

ثم يمضي سياق السورة في عرض مشاهد القيامة وما يكون فيها من شأن النفس اللوامة، فيذكرهم بحقيقة نفوسهم وما يعتلج فيها من حب للدنيا وانشغال، ومن إهمال للآخرة وقلة احتفال؛ ويواجههم بموقفهم في الآخرة بعد هذا وما ينتهي إليه حالهم فيها.

ويعرض لهم هذا الموقف في مشهد حي قوي الإيحاء عميق الإيقاع: {كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ووجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة}.

وأول ما يلحظ من ناحية التناسق في السياق هو تسمية الدنيا بالعاجلة في هذا الموضع.

ففضلا عن إيحاء اللفظ بقصر هذه الحياة وسرعة انقضائها وهو الإيحاء المقصود فإن هناك تناسقاً بين ظل اللفظ وظل الموقف السابق المعترض في السياق، وقول الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم {لا تحرك به لسانك لتعجل به}.

فهذا التحريك وهذه العجلة هي أحد ظلال السمة البشرية في الحياة الدنيا.

وهو تناسق في الحس لطيف دقيق يلحظه التعبير القرآني في الطريق! ثم نخلص إلى الموقف الذي يرسمه هذا النص القرآني الفريد: {وجوه يؤمئذ ناضرة إلى ربها ناظرة}.

إن هذا النص ليشير إشارة سريعة إلى حالة تعجز الكلمات عن تصويرها؛ كما يعجز الإدراك عن تصورها بكل حقيقتها.

ذلك حين يعد الموعودين السعداء بحالة من السعادة لاتشبهها حالة.

حتى لتتضاءل إلى جوارها الجنة بكل ما فيها من ألوان النعيم! هذه الوجوه الناضرة.

نضرها أنها إلى ربها ناظرة.

إلى ربها.

؟! فأي مستوى من الرفعة هذا؟ أي مستوى من السعادة؟ إن روح الإنسان لتستمتع أحياناً بلمحة من جمال الإبداع الإلهي في الكون أو النفس، تراها في الليلة القمراء.

أو الليل الساجي.

أو الفجر الوليد.

أو الظل المديد.

أو البحر العباب.

أو الصحراء المنسابة.

أو الروض البهيج.

أو الطلعة البهية.

أو القلب النبيل.

أو الإيمان الواثق.

أو الصبر الجميل.

إلى آخر مطالع الجمال في هذا الوجود.

فتغمرها النشوة، وتفيض بالسعادة، وترف بأجنحة من نور في عوالم مجنحة طليقة.

وتتوارى عنها أشواك الحياة، وما فيها من ألم وقبح، وثقلة طين وعرامة لحم ودم، وصراع شهوات وأهواء.

فكيف؟ كيف بها وهي تنظر لا إلى جمال صنع الله ولكن إلى جمال ذات الله؟ ألا إنه مقام يحتاج أولاً إلى مد من الله.

ويحتاج ثانياً إلى تثبيت من الله.

ليملك الإنسان نفسه، فيثبت، ويستمتع بالسعادة، التي لا يحيط بها وصف، ولا يتصور حقيقتها إدراك! {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة}.

ومالها لا تتنضر وهي إلى جمال ربها تنظر؟ إن الإنسان لينظر إلى شيء من صنع الله في الأرض.

من طلعة بهية، أو زهرة ندية، أو جناح رفاف، أو روح نبيل، أو فعل جميل.

فإذا السعادة تفيض من قلبه على ملامحه، فيبدو فيها الوضاءة والنضارة.

فكيف بها حين تنظر إلى جمال الكمال.

مطلقاً من كل ما في الوجود من شواغل عن السعادة بالجمال؟ فما تبلغ الكينونة الإنسانية ذلك المقام، إلا وقد خلصت من كل شائبة تصدها عن بلوغ ذلك المرتقى الذي يعز على الخيال! كل شائبة لا فيما حولها فقط، ولكن فيها هي ذاتها من دواعي النقص والحاجة إلى شيء ما سوى النظر إلى الله.

فأما كيف تنظر؟ بأي جارحة تنظر؟ وبأي وسيلة تنظر؟.

فذلك حديث لا يخطر على قلب يمسه طائف من الفرح الذي يطلقه النص القرآني، في القلب المؤمن، والسعادة التي يفيضها على الروح، والتشوف والتطلع والانطلاق! فما بال أناس يحرمون أرواحهم أن تعانق هذا النور الفائض بالفرح والسعادة؟ ويشغلونها بالجدل حول مطلق، لا تدركه العقول المقيدة بمألوفات العقل ومقرراته؟! إن ارتقاء الكينونة الإنسانية وانطلاقها من قيود هذه الكينونة الأرضية المحدودة، هو فقط محط الرجاء في التقائها بالحقيقة الطليقة يومذاك.

وقبل هذا الانطلاق سيعز عليها أن تتصور مجرد تصور كيف يكون ذلك اللقاء.

وإذن فقد كان جدلاً ضائعاً ذلك الجدل الطويل المديد الذي شغل به المعتزلة أنفسهم ومعارضيهم من أهل السنة والمتكلمين حول حقيقة النظر والرؤية في مثل ذلك المقام.

لقد كانوا يقيسون بمقاييس الأرض؛ ويتحدثون عن الإنسان المثقل بمقررات العقل في الأرض؛ ويتصورون الأمر بالمدارك المحدودة المجال.

إن مدلول الكلمات ذاته مقيد بما تدركه عقولنا وتصوراتنا المحدودة.

فإذا انطلقت وتحررت من هذه التصورات فقد تتغير طبيعة الكلمات.

فالكلمات ليست سوى رموز يختلف ما ترمز إليه بحسب التصورات الكامنة في مدارك الإنسان.

فإذا تغيرت طاقته تغير معها رصيده من التصورات، وتغيرت معها طبيعة مدلول الكلمات.

ونحن نتعامل في هذه الأرض بتلك الرموز على قدر حالنا! فما لنا نخوض في أمر لا يثبت لنا منه حتى مدلول الكلمات؟! فلنتطلع إلى فيض السعادة الغامر الهادئ، وفيض الفرح المقدس الطهور، الذي ينطلق من مجرد تصورنا لحقيقة الموقف على قدر ما نملك.

ولنشغل أرواحنا بالتطلع إلى هذا الفيض؛ فهذا التطلع ذاته نعمة.

لا تفوقها إلا نعمة النظر إلى وجهه الكريم.

{ووجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة}.

وهي الوجوه الكالحة المتقبضة التعيسة، المحجوبة عن النظر والتطلع، بخطاياها وارتكاسها وكثافتها وانطماسها.

وهي التي يشغلها ويحزنها ويخلع عليها البسر والكلوحة توقعها أن تحل بها الكارثة القاصمة للظهر، المحطمة للفقار.

الفاقرة.

وهي من التوقع والتوجس في كرب وكلوحة وتقبض وتنغيص.

فهذه هي الآخرة التي يذرونها ويهملونها؛ ويتجهون إلى العاجلة يحبونها ويحفلونها.

ووراءهم هذا اليوم الذي تختلف فيه المصائر والوجوه، هذا الاختلاف الشاسع البعيد!!! من وجوه يومئذ ناضرة، إلى ربها ناظرة إلى وجوه يومئذ باسرة، تظن أن يفعل بها فاقرة!!! وإذا كانت مشاهد القيامة.

إذا برق البصر، وخسف القمر، وجمع الشمس والقمر، وقال الإنسان يومئذ أين المفر.

ولا مفر.

وإذا اختلفت المصائر والوجوه، ذلك الاختلاف الشاسع البعيد، فكانت وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة، ووجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة.

إذا كانت تلك المشاهد تستمد قوتها وإيقاعها في النفس، من قوة الحقيقة الكامنة فيها، وقوة الأداء القرآني الذي يشخصها ويحييها، فإن السورة بعد عرض تلك المشاهد تقرب وتقرب حتى تلمس حس المخاطبين بمشهد آخر حاضر واقع مكرور، لا تمر لحظة حتى يواجههم في هذه الأرض بقوته ووضوحه ووزنه الثقيل! إنه مشهد الموت.

الموت الذي ينتهي إليه كل حي، والذي لا يدفعه عن نفسه ولا عن غيره حي.

الموت الذي يفرق الأحبة، ويمضي في طريقه لا يتوقف، ولا يتلفت، ولا يستجيب لصرخة ملهوف، ولا لحسرة مفارق، ولا لرغبة راغب ولا لخوف خائف! الموت الذي يصرع الجبابرة بنفس السهولة التي يصرع بها الأقزام، ويقهر بها المتسلطين كما يقهر المستضعفين سواء! الموت الذي لا حيلة للبشر فيه وهم مع هذا لا يتدبرون القوة القاهرة التي تجريه: {كلا إذا بلغت التراقي وقيل من راقٍ وظن أنه الفراق والتفت الساق بالساق إلى ربك يومئذ المساق}.

إنه مشهد الاحتضار، يواجههم به النص القرآني كأنه حاضر، وكأنه يخرج من ثنايا الألفاظ ويتحرك كما تخرج ملامح الصورة من خلال لمسات الريشة! {كلا إذا بلغت التراقي}.

وحين تبلغ الروح التراقي يكون النزع الأخير، وتكون السكرات المذهلة، ويكون الكرب الذي تزوغ منه الأبصار.

ويتلفت الحاضرون حول المحتضر يتلمسون حيلة أو وسيلة لاستنقاذ الروح المكروب: {وقيل من راقٍ} لعل رُقية تفيد!.

وتلوَّى المكروب من السكرات والنزع.

{والتفت الساق بالساق}.

وبطلت كل حيلة، وعجزت كل وسيلة، وتبين الطريق الواحد الذي يساق إليه كل حي في نهاية المطاف: {إلى ربك يومئذ المساق}.

إن المشهد ليكاد يتحرك وينطق.

وكل آية ترسم حركة.

وكل فقرة تخرج لمحة.

وحالة الاحتضار ترتسم ويرتسم معها الجزع والحيرة واللهفة ومواجهة الحقيقة القاسية المريرة، التي لا دافع لها ولا راد.

ثم تظهر النهاية التي لا مفر منها.

{إلى ربك يومئذ المساق}.

ويسدل الستار على المشهد الفاجع، وفي العين منه صورة، وفي الحس منه أثر، وعلى الجو كله وجوم صامت مرهوب.

وفي مواجهة المشهد المكروب الملهوف الجاد الواقع يعرض مشهد اللاهين المكذبين، الذين لا يستعدون بعمل ولا طاعة، بل يقدمون المعصية والتولي، في عبث ولهو، وفي اختيال بالمعصية والتولي: {فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى ثم ذهب إلى أهله يتمطى}!.

وقد ورد أن هذه الآيات تعني شخصاً معيناً بالذات، قيل هو أبو جهل عمرو بن هشام.

وكان يجيء أحياناً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع منه القرآن.

ثم يذهب عنه، فلا يؤمن ولا يطيع، ولا يتأدب ولا يخشى؛ ويؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقول، ويصد عن سبيل الله.

ثم يذهب مختالاً بما يفعل، فخوراً بما ارتكب من الشر، كأنما فعل شيئاً يذكر.

والتعبير القرآني يتهكم به، ويسخر منه، ويثير السخرية كذلك، وهو يصور حركة اختياله بأنه {يتمطى} يمط في ظهره ويتعاجب تعاجباً ثقيلاً كريهاً! وكم من أبي جهل في تاريخ الدعوة إلى الله، يسمع ويعرض، ويتفنن في الصد عن سبيل الله، والأذى للدعاة، ويمكر مكر السيئ، ويتولى وهو فخور بما أوقع من الشر والسوء، وبما أفسد في الأرض، وبما صد عن سبيل الله، وبما مكر لدينه وعقيدته وكاد! والقرآن يواجه هذه الخيلاء الشريرة بالتهديد والوعيد: {أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى}.

وهو تعبير اصطلاحي يتضمن التهديد والوعيد، وقد أمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم بخناق أبي جهل مرة، وهزه، وهو يقول له: {أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى}.

فقال عدو الله: أتوعدني يا محمد؟ والله لا تستطيع أنت ولا ربك شيئاً.

وإني لأعز من مشى بين جبليها!! فاخذه الله يوم بدر بيد المؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم وبرب محمد القوي القهار المتكبر.

ومن قبله قال فرعون لقومه: {ما علمت لكم من إله غيري} وقال: {أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي} ثم أخذه الله كذلك.

وكم من أبي جهل في تاريخ الدعوات يعتز بعشيرته وبقوته وبسلطانه؛ ويحسبها شيئاً، وينسى الله وأخذه.

حتى يأخذه أهون من بعوضة، وأحقر من ذبابة.

إنما هو الأجل الموعود لا يستقدم لحظة ولا يستأخر.

وفي النهاية يمس القلوب بحقيقة أخرى واقعية في حياتهم، لها دلالتها على تدبير الله وتقديره لحياة الإنسان.

ولها دلالتها كذلك على النشأة الآخرة التي ينكرونها أشد الإنكار.

ولا مفر من مواجهتها، ولا حيلة في دفع دلالتها: {أيحسب الإنسان أن يترك سدى ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى}.

وهذا المقطع الأخير العميق الإيقاع، يشتمل على لفتات عميقة إلى حقائق كبيرة.

ما كان المخاطبون بهذا القرآن يخطرونها على بالهم في ذلك الزمان.

وأولى هذه اللفتات تلك اللفتة إلى التقدير والتدبير في حياة الإنسان:{أيحسب الإنسان أن يترك سدى}.

فلقد كانت الحياة في نظر القوم حركة لا علة لها ولا هدف ولا غاية.

أرحام تدفع وقبور تبلع.

وبين هاتين لهو ولعب، وزينة وتفاخر، ومتاع قريب من متاع الحيوان.

فأما أن يكون هناك ناموس، وراءه هدف، ووراء الهدف حكمة؛ وأن يكون قدوم الإنسان إلى هذه الحياة وفق قدر يجري إلى غاية مقدرة، وأن ينتهي إلى حساب وجزاء، وأن تكون رحلته على هذه الأرض ابتلاء ينتهي إلى الحساب والجزاء.

أما هذا التصور الدقيق المتناسق، والشعور بما وراءه من ألوهية قادرة مدبرة حكيمة، تفعل كل شيء بقدر، وتنهي كل شيء إلى نهاية.

أما هذا فكان أبعد شيء عن تصور الناس ومداركهم، في ذلك الزمان.

والذي يميز الإنسان عن الحيوان، هو شعوره باتصال الزمان والأحداث والغايات.

وبوجود الهدف والغاية من وجوده الإنساني، ومن الوجود كله من حوله.

وارتقاؤه في سلم الإنسانية يتبع نمو شعوره هذا وسعته، ودقة تصوره لوجود الناموس، وارتباط الأحداث والأشياء بهذا الناموس.

فلا يعيش عمره لحظة لحظة، ولا حادثة حادثة، بل يرتبط في تصوره الزمان والمكان والماضي والحاضر والمستقبل.

ثم يرتبط هذا كله بالوجود الكبير ونواميسه.

ثم يرتبط هذا كله بإرادة عليا خالقة مدبرة لا تخلق الناس عبثاً ولا تتركهم سدى.

وهذا هو التصور الكبير الذي نقل القرآن الناس إليه منذ ذلك العهد البعيد، نقلة هائلة بالقياس إلى التصورات السائدة إذ ذاك وما تزال هائلة بالقياس إلى سائر التصورات الكونية التي عرفتها الفلسفة قديماً وحديثاً.

وهذه اللمسة: {أيحسب الإنسان أن يترك سدى}.

هي إحدى لمسات القرآن التوجيهية للقلب البشري، كي يتلفت ويستحضر الروابط والصلات، والأهداف والغايات، والعلل والأسباب، التي تربط وجوده بالوجود كله، وبالإرادة المدبرة للوجود كله.

وفي غير تعقيد ولا غموض يأتي بالدلائل الواقعة البسيطة التي تشهد بأن الإنسان لن يترك سدى.

إنها دلائل نشأته الأولى: {ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى}.

فما هذا الإنسان؟ مما خلق؟ وكيف كان؟ وكيف صار؟ وكيف قطع رحلته الكبيرة حتى جاء إلى هذا الكوكب؟ ألم يك نطفة صغيرة من الماء، من مني يمنى ويراق؟ ألم تتحول هذا النطفة من خلية واحدة صغيرة إلى علقة ذات وضع خاص في الرحم، تعلق بجدرانه لتعيش وتستمد الغذاء؟ فمن ذا الذي ألهمها هذه الحركة؟ ومن ذا الذي أودعها هذه القدرة؟ ومن ذا الذي وجهها هذا الاتجاه؟ ثم من ذا الذي خلقها بعد ذلك جنيناً معتدلاً منسق الأعضاء؟ مؤلفاً جسمه من ملايين الملايين من الخلايا الحية، وهو في الأصل خلية واحدة مع بويضة؟ والرحلة المديدة التي قطعها من الخلية الواحدة إلى الجنين السوي وهي أطول بمراحل من رحلته من مولده إلى مماته والتغيرات التي تحدث في كيانه في الرحلة الجنينية أكثر وأوسع مدى من كل ما يصادفه من الأحداث في رحلته من مولده إلى مماته! فمن ذا الذي قاد هذه الرحلة المديدة، وهو خليقة صغيرة ضعيفة، لا عقل لها ولا مدارك ولا تجارب؟! ثم في النهاية.

من ذا الذي جعل من الخلية الواحدة.

الذكر والأنثى؟.

أي إرادة كانت لهذه الخلية في أن تكون ذكراً؟ وأي إرادة لتلك في أن تكون أنثى؟ أم من ذا الذي يزعم أنه تدخل فقاد خطواتهما في ظلمات الرحم إلى هذا الاختيار؟! إنه لا مفر من الإحساس باليد اللطيفة المدبرة التي قادت النطفة المراقة في طريقها الطويل، حتى انتهت بها إلى ذلك المصير.

{فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى}.

وأمام هذه الحقيقة التي تفرض نفسها فرضاً على الحس البشري، يجيء الإيقاع الشامل لجملة من الحقائق التي تعالجها السورة: {أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى}.

بلى! سبحانه! فإنه لقادر على أن يحيي الموتى! بلى! سبحانه! فإنه لقادر على النشأة الأخرى! بلى! سبحانه! وما يملك الإنسان إلا أن يخشع أمام هذه الحقيقة التي تفرض نفسها فرضاً.

وهكذا تنتهي السورة بهذا الإيقاع الحاسم الجازم، القوي العميق، الذي يملأ الحس ويفيض، بحقيقة الوجود الإنساني وما وراءها من تدبير وتقدير.

x