في قصصهم عبره.. دع الود كما هو.وكذب المنجمون ثلاث قصص في غاية الروعة للكاتب.ادهم شرقاوي

في قصصهم عبره.. دع الود كما هو.وكذب المنجمون ثلاث قصص في غاية الروعة للكاتب.ادهم شرقاوي



في قصصهم عِبرة ١٢٧

دعِ الوُدَّ كما هو!

في كتابِ "الصمت" لابنِ أبي الدنيا:

قالَ مُجاهد بن جبر: كانَ لي صديق من قُريش، فقلتُ له: تعالَ حتى أواضعكَ الرَّأي، فانظُرْ أين تقعُ من رأيي، وأين أقعُ من رأيك!

فقالَ لي: لا تفعلْ ودعِ الوُدَّ كما هو!

فغَلَبَني القُرشيُّ بقوله!

الجدالُ نوعان: جدالٌ محمودٌ، وجدالٌ مذمومٌ!

فأما الجدال المحمود فهو ما كانَ تِبياناً للحق، وهو دأبُ الأنبياءِ عليهم السلام في دعوتهم، وفي القُرآن: {قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرتَ جدالنا}، وهو دأبُ الصالحين من بعدهم، وقد استطاعَ عبدُ الله بن عباس أن يُعيدَ إلى الحقِ ثلاثة آلاف رجل من الخوارجِ بعدما ناظرهم!

وما زالتْ الشُّبُهاتُ يبثها أصحاب الأهواء والقلوبِ المريضة، فيتصدَّى لها أهلُ الاختصاصِ من أتباعِ هذا الدين، وهذا ثغرٌ عظيمٌ يجبُ أن يُحرس، وعقيدةٌ يجبُ أن تُصان!

وأما الجدال المذموم فهو ما كانَ استعراضاً لعضلاتِ العقل، وإبراز مفاتنِ المعرفة، وكميةِ الثقافة!

وبسببِ هذا الجدال حُرِمنا من تحديدِ ليلةِ القدر، روى البُخاري عن عُبادة بن الصامت أنه قال: خرجَ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم ليُخبرنا بليلةِ القدر، فتلاحى/تخاصم رجلان من المُسلمين فيها.

فقالَ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: خرجتُ لأُخبركم بليلةِ القدر، فتلاحى فُلان وفُلان فرُفِعَتْ! وعسى أن يكونَ خيراً، فالتمسوها في التاسعة، والسابعة، والخامسة!

وكانَ دأبُ الصالحين من كلِّ أُمةٍ أن ينهوا عن الجدال والمراء:

قالَ سُليمان عليه السلام لابنه: دعِ المراء، فإنَّ نفعه قليل، وهو يُهيِّجُ العداوةَ بين الإخوان!

وقالَ ابنُ عباس: كفى بكَ إثماً ألا تزال مُمَارِياً!

وقالَ الأوزاعي: إذا أرادَ اللهُ بقومٍ شراً ألزمهم الجدل ومنعهم العمل!

وقيلَ لعبد الله بن الحسن بن الحُسين: ما تقولُ في المراء؟

فقال: يُفسِدُ الصداقةَ القديمة، ويحلُّ العقدةَ الوثيقة، وأقل ما فيه أن يكونَ دريئة للمُغالبة، والمُغالبةُ أمتنُ أسبابِ القطيعة!

وقالَ الشافعي: المراء في الدين يُقسي القلب ويُورِثُ الضغائن!

وقِيلَ قديماً: لا تُمارِ حليماً ولا سفيهاً، فإنَّ الحليم يغلبك، والسفيه يؤذيك!

في قصصهم عِبرة ١
كَذَبَ المُنجِّمون!

كان "لويس الحادي عشر" مُولعاً بالتَّنجيم، يُصغي كثيراً إلى العرّافين والمُنجّمين، وربما غيَّرَ رأيه بشأن أمرٍ سياسي هام فقط لأن مُنجِّماً أخبَرَه أمراً ما!
ولم يكُن أحد يستطيع أن يفهمَ كيف لملكٍ قويٍّ مثل لويس أن يكونَ ضعيفاً تجاه المُنجِّمين، حتى أنه كان يحتفظُ بأحدِهِم في قَصرِهِ لشدةِ إعجابِه بنُبوءاتِه!

وفي يومٍ من الأيام تنبَّأَ هذا المُنَجِّمُ الأثيرُ على قلبِ الملكِ بأنَّ إحدى سيداتِ القصر سوف تموت بعد ثمانية أيام. وعندما تحققت النبوءة شعرَ الجميعُ بالخوف من هذا المُنجِّم، حتى لويس نفسه!

قال لويس في نفسه: هذا المُنجِّمُ إما أنه قتلَ السيدة ليُثبتَ براعته، أو أنه بارعٌ إلى هذه الدرجةِ المخيفةِ، وفي كِلتا الحالتين يجب أن يموت!
فاستدعاهُ إلى غرفتِهِ التي تقعُ في أعلى القلعةِ، وأخبرَ الحرسَ أن يُمسكوا به ويلقوه من أعلى عندما يُعطيهم الإشارة التي كانت التصفيق بيديه!

وعندما وصلَ المُنجِّمُ سألَه لويس سؤالاً غريباً، قال له: إنك تزعمُ أنكَ تعرفُ أعمار النَّاس، فلا شك أنكَ تعرفُ متى ستموت، أليس كذلك؟
قال له المُنجِّمُ: أجل، أنا سأموتُ قبل جلالتِكَ بثلاثةِ أيام!
فلم يجرؤ الملكُ على التصفيقِ بيديه، بل إنه ضاعفَ الحراسةَ على المنُجّم ليحميه!

عاشَ هذا المُنجِّمُ بعد لويس سنواتٍ طويلة، وتبيَّنَ للناسِ أنه كانَ كاذباً، ولكنه نجا بحياتِهِ بذكاءٍ خارق!

الساسةُ والأدباءُ والأثرياءُ والفلاسفةُ والمُفكرون والمُخترعون فئةٌ من الناس، وبالتالي لديهم ما لدى الناس من محاسن وعيوب، وإن الصورة الملائكية التي نرسمها لهؤلاء في مخيلاتِنا لا تُعبِّر أبداً عن حقيقتهم، وإنما هذا مرجعه أننا نرى الأمرَ من بعيدٍ، لهذا قالوا: إذا أحببتَ فلا تقترِبْ، الكثيرُ من الأشياء هي من بعيدٍ أجمل!
يُشبهُ هذا إلى حدٍّ بعيدٍ قول دوستويفسكي: أسهل طريقة لنسيان امرأة تُحبها هي أن تتزوجَها!

اختلفَ شكلُ التنجيمِ اليوم، لم نعُد نرى العرافاتِ الغجرياتِ يجُبْنَ الطرقاتِ، ولا تلك الشريرة التي تُدير أمامها كرةً بيضاء كبيرة، اختبأَ المُنجِّمون وراء ألقاب ساحرة، العَالِم الروحاني، والوَلِي الذي كُشف عنه الحجاب، والخبير بالأبراج، لم يختلف المُحتوى كثيراً وإنما اختلفت الطريقة، بدل أن تسترقَ السمع على مستقبلك من عرافة، صُرْتَ تسترقَه من صفحةِ الأبراجِ في المجلة، ألا وإنَّ الدجلَ واحد، وإنَّ المُنجِّمين كاذبون، ولا يعلم الغيبَ إلا الله

أدهم شرقاوي

في قصصهم عِبرة ١٣٠
الطاعون!

يروي "لافونتين" في كتابه "خُرافات منتقاة" قصةَ حيواناتٍ أُصيبتْ بالطاعون، وهي القصة التي حولها "أحمد شوقي" فيما بعد إلى قصيدةٍ رائعةٍ.

والقصةُ باختصار أن حيواناتِ الغابةِ قد أُصيبتْ بالطاعون، فجمعَ الأسدُ كلَّ الحيواناتِ وأخبرَهُمْ أن كُتبَ الأولين تقولُ أن هذا المرض لا ينزل بالحيوانات إلا بسببِ ارتكابِهم للذنوب، وعلى كل واحدٍ أن يذكر أفعاله، ليعرفوا من هو الجاني، الذي جلبَ الوباء للغابة!
قالَ الأسدُ: لقد افترسْتُ غزلاناً كثيرة، وهجمتُ على حظائر فيها البقر، فهل ترون أني مُذنب؟
فقالَ له الثعلبُ: لقد خُلِقْتَ للافتراسِ يا سيدي، أنتَ ملكٌ عظيمٌ، ومرهفُ الحسِّ، تحسبُ أنك السبب، والحقيقةُ أنك أجمل من في الغابة!

وهكذا تقدمتْ الحيوانات المفترسة واحداً تلو الآخر، كل يتحدثُ عن هجومه على الحيواناتِ الأُخرى، ثم يسألُ هل أنا مُذنب، فيُسارِعُ الثعلبُ للثناءِ عليه، ويُخبرُهُ أن عمله بسيط وطبيعي، وليس سبباً في الطاعونِ أبداً!

وعندما جاءَ دورُ الحمارِ، أخبرهم أنه لا يذكر ذنباً قد اقترفه، ولكن في أحدِ الأيامِ استبدَّ به الجوع، ومرَّ من جانبِ الدَّيرِ، فرأى عُشباً قد نبتَ قربَ جدارِه، فنازعتْهُ نفسه أيأكل منه أم لا، ثم أنه تحت وطأةِ الجوعِ قررَ أن يأكل!
عندها قالَ له الثعلب: جاءَ في كتبِ الأوائلِ أنَّ عشبَ الدَّيرِ حرام، أنتَ لا شك سبب هذا الوباء!
فأصدرَ الأسدُ حكمَه بتعليقِ الحمارِ في حبلِ المشنقةِ، قُرباناً للشفاء، وليكون عبرةً لمن يُفكرُ في استباحةِ المُحرَّمات!

حُجَّةُ القوي قويةٌ ولو كانتْ باطلة، وحجةُ الضعيفِ ضعيفةٌ ولو كانتْ حقاً! هذا ما دأبَ عليه الناسُ منذ فجرِ التاريخ!

جِيء للإسكندرِ المقدوني بلصٍّ من لصوصِ البحر، فقالَ له: كيف تسرق أموال الآخرين؟!
فقالَ له: أنا أسرقُ أموال الآخرين بسفينةٍ صغيرةٍ فيُسمُّونني لِصاً، وأنتَ تسرقُ أموالَ الآخرين بأسطولٍ كبيرٍ فيُسمونك فاتحاً!

جميعنا شاهدْنا في أفلامِ هوليوود بطولة جنودِ المارينز ضد الفيتناميين الأشرار، ولكن الحقيقة أن فيتنام كانتْ مُحتلَّة من قِبل أمريكا، وأن الفيتناميين كانوا أبطالاً يُدافعون عن أرضِهِم.
وكما يقولُ المثل الإفريقي: سيبقى الذئبُ بطل الحكايةِ حتى يتسنَّى للخرافِ من يسمع حكايتها

أدهم شرقاوي

x